في إحدى الشركات الروسية يدير رجل ذو منصب هام وجهه نحو الحائط كلما أراد تناول وجبة غدائه. أما سبب هذه الحالة الغريبة، فتخبرنا بها كاتبة سورية تعيش هناك. تقول إنّه أحد الناجين من «حصار ستالينغراد» (استمر من 9 أيلول 1941 إلى 18 كانون الثاني 1943). حمل الرجل الناجي ما تركته الحرب العالمية الثانية من أثر بالغ على ظهره، وراح يعيش مع الخوف والضغط النفسي بقية عمره...
يبدو المشهد قد تجاوز حتى كل المبالغات المحبوكة في السينما الهوليوودية، لكنه حصل في الواقع. وربما سيعود ليحدث مرات متكررة مع عدد كبير من السوريين الذي سيبقون على قيد الحياة بعد أن تضع الحرب أوزارها، بخاصة هؤلاء الذين
أجبروا على البقاء في مناطق كانت منسية من قبل الحكومة قبل الأحداث وزاد نسيانها بعدما خرجت عن سيطرة الدولة، وصارت تحت سيطرة الجماعات التكفيرية المتطرفة. وعلى الرغم من أنها تعتبر خزّان الوقود السوري وخاصرة زراعية غنيّة، إلا أن محافظة دير الزور تقبع منذ وقت طويل بين فكي نارين تتلظيان حول حاجة سكان المنطقة لمواد الحياة الأساسية. هكذا، يبدو مشهد من تبقى هناك واقعاً بين الدمار والخراب والقصف من جهة، وبين التكفيرين من جهة أخرى. يزيد من هول المأساة الحصار المطبق على المناطق التي يسيطر عليها النظام وتقبع بدون كهرباء ولا مواد غذائية ولا شيء يذكر من ألف باء الحياة في أدنى حالاتها. الإعلام السوري شبه نائم لا يعرف معظم العاملين فيه أصلاً جغرفيا بلدهم. لكن فجأة ظهر مذيع اسمه جعفر أحمد عرف كيف يقارع الخطر ويروّضه في كثير من الأماكن. تحدى الموت متى أراد أن يأتيه. مرّة حوصر في مستشفى «دير عطية» في ريف دمشق، عندما اجتاحتها الجماعات المسلحة على حين غرّة، فخرج بفضل عزيمة شباب من الجيش السوري ضحّوا بأنفسهم لأجله وفق ما قال في لقائه بعد الحادثة على «الفضائية السورية» وعجز يومها عن حبس دموعه، رغم أنه يظهر غالباً كرجل حديدي لا يخشى شيئاً، وربما يعتبر أن الحل الأمني في كثير من الأماكن هو الأنجع. لا يخفي جعفر تأييده للنظام السوري منذ اندلاع الحراك السلمي الذي تحوّل حرباً قذرة، بل يضع صورته مع الرئيس بشار الأسد غلافاً على صفحته على الفايسبوك. تمكّن أخيراً في برنامجه «من الآخر» (يعرض في تمام الساعة 9.30 على الفضائية السورية» و «إذاعة سوريانا») من اقتحام سور «درّة الفرات» بحماية من الجيش السوري غالباً. دخل المدينة المنكوبة وأجرى حواراً مع المحافظ محمد قدّور العينية. لم يكن الحوار كما اعتاده جمهور الإعلام السوري من مجاملات وتطبيل وتزمير في حضرة فخامة المسؤول، إنما كان عبارة عن ملاحقة سلطوية بحجة المهنية التي تقتضيها «صاحبة الجلالة». سأله إن كان أهل دير الزور قد صاموا طيلة شهر رمضان الماضي من دون سحور ثم تناولوا وجبة إفطار لا تتعدى مكوناتها الشوربة كنوع من الإيمان؟ فرد المحافظ بالقول «إطلاقاً إنما هو أمر واقع وقد أخبرت المسؤولين بالتفاصيل الدقيقة التي ترزح تحتها المدينة». بعد ذلك، خرج أحمد من مكتب المحافظ نحو الشارع. جال بكاميرته في الشوارع المعدودة التي ما زالت تحت سيطرة النظام، وعاد بمادة فيلمية تبكي الحجر! سأل سيدة تحمل طفلتها الرضيعة عن حالها، فانهارت بالبكاء وطلبت أي مساعدة إنسانية من الإعلامي السوري المعروف. وصل إلى بسطة بضائع، فسأل صاحبها عن الأسعار، فكانت الفاجعة بأن عبوة البن مثلاً يصل ثمنها ما يعادل راتب موظف خلال شهر كامل، ثم استمرت معاناة المحاصرين أمام الشاشة. صرخة محمود درويش الشهيرة «وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر» ترددت على لسان أكثر من شخص. ووسط الظلام الدامس، شرح رجل أنّ مبلغ 70 ألف ليرة (حوالي 235 دولاراً أميركياً) هو مرتبه مع مرتب زوجته لم يعد يكفيه 7 أيام، ثم طلبت عجوز طريقة للخروج من المكان المنسي. وقبل كل ذلك، وصل جعفر إلى المؤسسة الاستهلاكية، فوجدها خاوية على عروشها تصفر فيها كل الرفوف المخصصة للبضائع. مع ذلك، وجد جمهرة أمام المؤسسة سأل الموظف الملتزم بدوامه ماذا يفعل هؤلاء رغم أن المؤسسة فارغة من أي مواد، فرد: «ينتظرون فرج الله عسى أن تصلنا إحدى المواد الغذائية». كذلك لاحقت كاميرا «من الآخر» الطلاب في باحات جامعاتهم البائسة التي تفتقر أدنى مقومات الحياة الدراسية.
المادة الفيلمة تثمن غالياً ومغامرة جعفر أحمد ليست قليلة، ومحاصرته لضيوفه من المسؤولين المتمترسين خلف سياج مكاتبهم، تبدو في مكانها الطبيعي. لكن يبقى سؤال بسيط: ترى من يتنطح من أهل الإعلام الرسمي لسؤال السوريين المقيمين في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة عن أحوالهم؟