قانونياً، البلديات مسؤولة عن الصحة العامة والنظافة، ولكن، ومنذ عشرين سنة، تخلّت بعض البلديات، في معظم المناطق اللبنانية، عن هذه المسؤولية لمصلحة شركات خاصّة، على رأسها «سوكلين». وبذلك حرمت البلديات موارد مالية مهمة، تتكون من حصتها في عدد من الرسوم التي تجبيها الدولة، وتغذي الصندوق البلدي المستقل. وقد أصبحت الدولة تحوّل هذه الأموال مباشرة إلى الشركات المكلفة جمع ومعالجة النفايات، وعلى رأسها «سوكلين»، بلا مراقبة فعلية للبلديات على هذه الأموال.
ومع انفجار أزمة النفايات، بعد إقفال مطمر الناعمة، والتوقف عن جمعها ونقلها، لتتراكم أمام المنازل، وفي الشوارع، وانطلاق حركات الإحتجاج على تقصير السلطات في هذا المجال، وتحويلها الى حركات تحمل مطالب سياسية تغييرية، شرع عدد متنام من البلديات بأخذ مسؤوليته القانونية مجدداً في مجال النفايات. ويودنا أن نعرض في هذا المقال وصفاً للحل الذي شرعت هذه البلديات بتنفيذه. ولهذا الحل عنوانان: اللامركزية بالمعالجة، واستعمال كل مكونات النفايات. وهو الحل الذي ينفذ حالياً، ومنذ سنوات، في عدد من القرى والبلدات، من قبل البلديات، وقوامه ما يلي:
أولاً: العمل انطلاقاً من البلديات، التي تتحمل المسؤولية القانونية للصحة والنظافة. يُجري المواطن، في نطاقها، فرز النفايات من المصدر، في كل مسكن داخل مستوعبين: المستوعب الأول للنفايات العضوية، المتأتية من المواد النباتية والحيوانية وورق الكلينكس والتواليت، وهو يجمع في أكياس بلاستيكية توزعها البلديات على المساكن. والمستوعب الثاني للنفايات غير العضوية (الخشب، الكرتون، الدواليب، المعادن، الزجاج، البلاستك، وغيرها من النفايات غير العضوية).

يجب منع إنشاء المحارق فهي ملوثة للبيئة
ومرهقة مالياً للبلديات

ثانياً: تباع النفايات غير العضوية، من قبل البلديات، لشركات متخصّصة في استعمال، أو تدوير وإعادة استعمال النفايات غير العضوية: مصانع الإسمنت تشتري الخشب لاستعماله وقودا، مصانع الورق والكرتون تعيد استعمال الورق والكرتون كمواد أولية لانتاجها، مصانع الدواليب كذلك. المعادن (سعر طن التنك 1200 دولار) تكبس، وتصدّر للخارج، بانتظار أن يصبح في لبنان كميّة كافية من النفايات الحديدية، لإعادة صهرها لانتاج قضبان الحديد للباطون، مثلما كانت الحال في «معمل عمشيت لقضبان الحديد». الزجاج يباع لمصانع الزجاج، لصهره وإعادة استعماله. وكذلك البلاستك، ويباع بـ 400 دولار للطن، حيث يجري الآن تصنيع مفروشات من البلاستك المدوّر. والعوادم، كبقايا مواد البناء، من حجارة وبحص وغيرها، يعاد صبّها لانتاج البلاط.
تجدون طيّاً لائحة بأسماء وعناوين وهواتف بعض هذه الشركات، على سبيل المثال لا الحصر. ويمكن خزن النفايات غير العضوية بسهولة، لأنها لا تتحلل، ولا تصدر عنها الروائح، أو الغازات. وفي المدن التي يفوق حجم سكانها الـ /50.000/ نسمة تنشأ مصانع لفرز النفايات غير العضوية، التي تباع، كلّ صنف على حدة.
ثالثاً: توضع النفايات العضوية، التي تشكل نصف حجم النفايات المنزلية (50 الى 55%) في أراض للبلديات، أو للأوقاف، أو للأفراد، أو مستأجرة من قبل البلديات، ثم تفلش، وتجفف، فيصغر حجمها، وتغطى بالتراب، وتخمّر لتتحول، في مدة أقصاها شهرين، إلى أسمدة عضوية تستعمل للزراعة، بعد أن تسحب منها فضلات الرصاص والزئبق، بوسائل فنية معروفة. وتباع هذه الأسمدة للمزارعين، كما هو حاصل الآن في عدد من القرى والبلدات، على سبيل المثال: خربة سلم، عيترون، كفرصير، الناقورة، عربصاليم، جباع، وقبر يخا، والقليعة في الجنوب، وحبالين في قضاء جبيل، وبسوس في قضاء عاليه، وجون في الشوف، وأرصون في قضاء بعبدا، وهو قيد التنفيذ في رومية وبكفيا وبعبدات، قضاء المتن، وقيد الإعداد في قرى وبلدات أخرى. وفي المدن التي يفوق عدد سكانها الـ /50.000/ نسمة ينشأ مصنع من قبل البلدية، يقوم بتخمير مسرّع للنفايات العضوية في هنكارات كبيرة مغلقة، تأميناً لعدم انتشار الروائح.
رابعاً: يجب في كل الأحوال منع إنشاء المحارق منعاً باتاً، فهي ملوثة للبيئة، وتصدر عنها مواد مسرطنة، وغير اقتصادية، وترهق البلديات بكلفة المازوت، وكلفة إنشاء المحرقة، وتحرمها مدخول بيع الأسمدة. ويجب الانتباه إلى هذه النقطة لأن العديد من السياسيين يروجون للمحارق عن حسن، أو سوء نية.
خامساً: يتطلب الفرز المنزلي القيام بحملة توعية في القرى والبلدات، وأحياء المدن، من خلال توزيع البلديات منشورات وملصقات، وكذلك من خلال مؤسسات المجتمع المدني (الكشافة، حركات الشبيبة، الجمعيات البيئية، وغيرها من الهيئات المنظمة). كما يستحسن توزيع المنشورات في أماكن العبادة، والطلب من رجال الدين، خلال عظات الأحد وخطب الجمعة، ذكر ضرورة الفرز في المنزل، حفاظاً على البيئة، والصحّة العامة والخاصة، كما يجب استعمال الإعلام المسموع والمرئي، ووسائل التواصل الاجتماعي في حملة التوعية هذه، كلك يجب توزيع المنشورات في المدارس والجامعات، وشرح ضرورة وكيفية ومنافع الفرز المنزلي لتلاميذ المدارس والجامعات.
سادساً: يجب على البلديات مراقبة انضباط المواطنين، وعدم رميهم نفايات عضوية في مستوعب النفايات غير العضوية، من خلال رقابة دورية على مداخل المساكن، حيث توضع المستوعبات، وتنبيه المواطنين الذين لا يتقيدون بالفرز وتغريمهم بعد فترة.
هذا الحل ليس حلاً خيالياً، بل هو حل يجري تطبيقه في أكثر من قرية وبلدة، وفي أكثر من منطقة لبنانية، ذكرناها أعلاه، وهو يتمتع بالمزايا الإيجابية التالية:
1ـ يحمي البيئة، دون أي ضرر. ويسمح بحل مشكلة المكبّات، من خلال تصغيرها وتوزيعها، فيكون لكلّ قرية مكبّ صغير لتحويل النفايات إلى سماد.
2ـ يؤمّن مواد أولية للزراعة العضوية، التي تعدّ أرقى الزراعات الصحيّة. ويؤمن مداخيل للبلديات، من خلال بيع الأسمدة العضوية، وينعكس إيجاباً على ميزان المدفوعات اللبناني، إذ يوفّر استيراد الأسمدة العضوية، ويولّد دخلاً وطنياً إضافياً.
3ـ يوفّر مواد أولية محلية غير مستوردة وبأسعار معقولة، للعديد من الصناعات. فيخفّف نسبة استيرادها، ما ينعكس إيجاباً على ميزان المدفوعات.
4ـ يوفّر قطع الأشجار لإنتاج الورق والكرتون، وإرهاق المرامل لإنتاج الزجاج، ويخفف من الضغط على الموارد النفطية والغازية لانتاج البلاستك، كما يوفر من استخراج المعادن في المناجم. وكلها موارد محدودة الحضور في الطبيعة، وغير قابلة للتجدّد (عدا الأشجار) وذلك على الصعيد الوطني والعالمي.
5ـ يحوّل النفايات من عبء على البلديات، والمجتمع المحلي، إلى مصدر مداخيل متعددة (بيع الأسمدة والمواد غير العضوية) ويؤمن طبيعة نظيفة ومتجدّدة.
6ـ يسمح للبلديات بأن تتمتع بمخصصاتها من الصندوق البلدي المستقل، كما يزيد من مداخيلها من خلال بيع السماد العضوي، ومختلف أنواع المواد غير العضوية، المذكورة أعلاه. فتتمتع البلديات بذلك بمداخيل إضافية تسمح لها بتنفيذ مشاريع إنمائية تسهم بالإنماء المتوازن.
وأخيراً، وبعدما قرر مجلس الوزراء الإفراج عن الأموال المستحقة للبلديات، من الصندوق البلدي المستقل، ومن عائدات الخلوي، وذلك بالنسبة للبلديات التي ترغب بأن تستعيد إدارة ملف النفايات في نطاقها، فهناك تسهيل للبلديات، لتقوم بهذا الدور مثلما وصفناه أعلاه.
* اقتصادي ومؤرخ لبناني