بذرة في ارض الشقاق

تعبت. فعلاً تعبت. إنها المرة الأولى التي أحس فيها بتعب مشابه. عقلي مشوش. قلبي مشوش. ضميري مشوش. كمن اكتشف فجأة بأنه «منذ الطفولة» ضائع في متاهة دائرية تعيده دوماً، بعد لحظات من الأمل، الى نقطة الانطلاق، وهذا أصعب هبوط. كم هو متعب هذا الشعور وكم هو محبط هذا الاكتشاف. كم هو كئيب.
تأخرنا كثيراً بالتحرك ضد هذه السلطة، ضد نظام الفساد. أعاقتنا وتعيقنا اليوم خلافات كثيرة، تحور وتدور حول فقدان مكون ضروري في أي عقد اجتماعي: الثقة.

لا ثقة بين اللبنانيين. صحيح أنه لا ثقة بالسلطة المستولية على أمورهم منذ عقود، لكن انعدام الثقة الأساسي والمهم هو بينهم. فالخلاف السياسي لم يعد فقط خلافاً بالرأي، بل أصبح خلافاً وجودياً. خلاف على الهوية: من نحن؟ من هو العدو ومن هو الصديق؟. أصبح التباين بالرأي خلافا شخصياً التهم ما تبقى من مساحات مشتركة حتى بين الأصدقاء «التاريخيين».
كيف نرمم هذه الثقة بيننا؟ لم يعد السؤال وكأننا نتحدث عن مجموعات بعيدة عن "مضاربنا" السياسية، بل أصبح سؤالاً للنفس: ما يمكن لها أن تتنازل عنه للتقارب مع الآخر، وما يمكن أن يعيد الثقة، ولو كبذرة الى أرض الناس.
في التحركات الأخيرة، وعقلي مشغول بهذا السؤال الأخير، كنت أجول مسجلة في مكان ما في رأسي كيفية تجاهل أفراد لأفراد في التظاهرات على خلفية الخلافات السياسية بين 8 و14 والأزمة السورية. كان المشهد ساخراً الى حد ما: صديقة قديمة تتجاهل أنها رأتك. أو زميل"فصعون" يمر بجانبك وهو "يمثل" بأنه لم يرك كونه يعمل في مطبوعة "معادية". لكني فجأة أدركت منحى الجمال في هذا المشهد البشع مبدئياً: فقد كنا كلنا في ساحة واحدة! الساحة وحّدتنا حول "شيء ما" يجب البناء عليه. ما هو؟ الأمل؟ ربما كان جواباً سريعاً.
هناك من نعى الحراك. وهو متشائم مستعجل. هناك من لا يزال يتابع ناشطاً وهو متفائل متهور. وبين الاثنين أجد نفسي أفكر بأن هذا الحراك باستمراره ولو متضائلاً، يراكم شيئاً أساسياً كان مفقوداً حتى اليوم في بلدي: الوعي المواطني. معنى الموظف الرسمي ولو كان برتبة رئيس، معنى الساحة العامة والأملاك العامة، معنى المواطنية بما هي حقوق وواجبات. الخ.
فلقد ساد الجهل المواطني لعقود من الحروب الأهلية، وتراكم في زمن السلم المزيف المبني على النسيان، تراكم ونما حتى بدا عملاقاً كجبل نفايات لا حل له، إلا أن هذا الجهل بدأ يتقلص باندفاع ورغبة عميقة من جيل جديد لم يصب منه اليأس مقتلاً.. بعد. بدأ الناس يعون قوتهم كرأي عام، بعد سيادة «ثقافة» الجماهير التابعة، هذا شيء جدير بالاحتضان، ويجب البناء عليه.

أما النقطة الثانية فهي بدء تفكير الناس بأمورهم بأنفسهم. أي لم يعودوا يتكلون على شخص ليفهمهم قضية ما، كان الناس يلجأون (وأنا منهم) الى «فهيم بالنيابة» لتقرير موقف في قضية ما معقدة (دائما). فالثقة لم تكن فقط مفقودة بين اللبنانيين والسلطة وبين اللبنانيين أنفسهم، بل أيضاً بأنفسهم. هكذا توقف الكثيرون عن متابعة ملفات، ساهم أداء السلطة الفاسد في تعقيدها على الفهم، مع أنها أساسية في حياتهم. كان اللبنانيون يدركون أن وراء هذا التعقيد فساداً مبسطاً، لكن إثباته صعب لكثرة المستفيدين من تغييب الدليل.
اليوم، هناك بداية لتغير في هذا السلوك الكسول والمتخلي. والملف البيئي هو مثال ممتاز. فحتى وقت قريب جداً، كان النضال البيئي ينظر إليه كترف. أما المناضلون البيئيون فكانوا يبدون كأشخاص مولعين بـ«فنعة» ما، غير مؤذيين، لكنهم مملون بعروضهم المغرقة في الشرح التقني وبالمصطلحات الأجنبية المترجمة بشكل سيئ، في حين كانت هناك هموم «أكبر» تشغلنا في حياتنا اليومية، مثل الكهرباء والأجور والمدارس والأقساط والمستشفيات الخ...
الى أن وقعت الواقعة. فأصبح هؤلاء الخبراء الذين كان ينظر إليهم على أنهم نوع من الهيبيز، مخلّصون عصريون، نتابعهم كما يتابع الأطفال أفلام الكرتون. هكذا أقبل اللبنانيون على التثقف البيئي، وخاصة في موضوع النفايات التي اكتشفوا أنها منجم للإمكانات الوطنية (فرص عمل، التدوير، الطاقة) لو توفر فقط الإخلاص في الخدمة العامة.
البعض نعى الحراك. وهو متشائم وقد يكون خبيثاً. والبعض حمّله أكثر مما يجب، وهو متفائل وقد يكون خبيثاً أيضاً. إلا أن الثابت أن هذا الحراك ولو انتهى، مع أنه مستمر ولو بوتيرة ابطأ، لن يكون مطلقاً «قصة وانتهت».
هو بداية لمرحلة جديدة في لبنان، مرحلة تقوم على استعادة اللبنانيين الثقة بأنفسهم وببعضهم بعضاً، ما قد يمهد لولادة لبنان ما، لا شك أنه سيكون علي الأقل أحلى وأرقى من المزرعة التي نعيش فيها اليوم. وهذا ما يفسر رعب السلطة وانقضاضها على هذه الرقعة البسيطة من الثقة التي ولدت عفوياً بين بعض اللبنانيين في لحظة ما أشبه بالمعجزة.
فلنقل إذاً إننا في مرحلة انتقالية، مرحلة نتعلم فيها مواطنيتنا، نتعلم كيف يسمع بعضنا بعضاً من جديد، وأن نضع أنفسنا مكان الآخرين ونفكر بإخلاص: ممّ هم خائفون؟ وأن نسعى الى طمأنتهم. فهذه الأرض وحدها يمكن البناء عليها لطبيعتها الجيولوجية الثابتة، وإلا سيكون هذا الحراك مجرد تخبط في مستنقع للرمال المتحركة، كلما «حركنا» أكثر، غرقنا في وحول الخوف والاضمحلال.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم