اعتادت السلطة في لبنان إهدار المال. يُحكى عن هذا الأمر كما لو أنه قضاء لا رادّ له. يُقال الكثير عن صفقات تُموّل من الخزينة العامة، لتنفيذ مشاريع، تكون قيمتها الحقيقية أقل بكثير مما أُنفِق عليها. وبات معروفاً أن رجال السلطة لا يعترفون بكل ما يمت بصلة لتضارب المصالح، فتستفيد شركاتهم ومصارفهم من المال العام، بلا أي حياء.
لكن بعض الحالات تبدو «فجّة» أكثر مما سبق ذكره، كونها تماثل، عملياً، «إحراق» أموال عامة، بكل ما في ذلك من عبثية. القضية الجديدة التي اطّلعت عليها «الأخبار» في هذا الإطار، تكشف تفاصيل عملية لا تزال مستمرة، نتيجتها إهدار نحو 30 مليون دولار أميركي، في وزارة الاتصالات، أنفق جزء منها ويجري العمل على إنفاق الجزء الآخر، من دون أي مردود للمصلحة العامة أو لخزينة الدولة، ولا حتى لمجموعة صغيرة من المواطنين. وحده مالك مبنى قديم في الشياح بدا كمن استيقظ صباحاً ووجد في منزله ثروة لا يعرف مصدر نزولها عليه.
افتُتِح سجل القضية في أيلول 2012، حين وقّعت شركة «تاتش» («أم تي سي»، المشغلة لواحدة من شبكتي الهاتف الخلوي المملوكتين من الدولة اللبنانية) عقداً مع صاحب مبنى «كاسابيان» في منطقة الشياح العقارية (قرب بولفار كميل شمعون)، لاستئجار عقاره لمدة عشر سنوات، مقابل مبلغ مالي يصل إلى نحو 2.2 مليون دولار سنوياً. قبل توقيع العقد، طلب وزير الاتصالات (حينها) نقولا صحناوي من الشركة التفاوض مع مالك العقار لخفض قيمة البدل الذي يطلبه. تم ذلك، وخُفِّض المبلغ بنسبة تصل إلى نحو 50 في المئة. بذلك، باتت كلفة الاستئجار مساوية إلى حدّ ما لما تدفعه «تاتش» لقاء استئجارها مبنيين لإدارتها العامة في منطقة مار مخايل النهر (يملك أحدهما النائب نعمة طعمة)، علماً بأن مساحة المبنى الجديد تفوق مساحة المبنيين اللذين تشغلهما الشركة حالياً.

تقول مصادر وزارة الاتصالات إن حرب يتذرّع بقرب المبنى من الضاحية الجنوبية لفسخ العقد


وبمراجعة لوثائق القضية، تبيّن أن المبنى المستأجر كان في حاجة إلى تدعيم وصيانة، بناءً على الكشف الذي أجرته «دار الهندسة». وتبلغ قيمة الأعمال اللازمة لذلك نحو مليون ونصف مليون دولار. دخلت الشركة في مفاوضات مع المالك مجدداً، وتوصلت إلى اتفاق معه يتحمل بموجبه مبلغ 700 ألف دولار من قيمة التصليحات، على أن يمدّد عقد الإيجار ستة أشهر مجاناً.
مرّ نحو 16 شهراً من مدة العقد. وفي شباط 2014، طلبت الشركة من الوزارة صرف 10 ملايين دولار أميركي، بدل أشغال كهربائية وميكانيكية وهندسية، تتضمن تجهيز المبنى من النواحي التقنية واللوجستية ليكون مقراً رئيسياً لشركة اتصالات خلوية. في ذلك الوقت، كانت فترة تصريف الأعمال على وشك الانتهاء، فرفض الوزير الصحناوي صرف المبلغ، علماً بأن الشركة أكّدت للوزارة أن هذا المبلغ سيُدفع في مطلق الاحوال عند تنفيذ عملية نقل مقر الشركة إلى أي مبنى جديد، لافتة إلى أن هذا المبلغ ملحوظ في الملف الأولي لعملية الانتقال.
بعد تسلم الوزير بطرس حرب الوزارة بنحو شهرين، طلب من مسؤولي «تاتش» فسخ عقد الإيجار. كانت الصفقة قد دخلت عامها الثاني، مع ضمان المالك حصوله على بدل إيجار ثلاث سنوات، إضافة إلى كلفة تأهيل المبنى (نحو 8.2 ملايين دولار). «نَصَح» حرب الشركة بالتوصل إلى اتفاق «حبّي» مع المالك. وتبيّن خلال الأشهر الماضية أن كلفة اتفاق كهذا لن تكون أقل من 10 ملايين دولار. خلاصة الأمر أن تكلفة العملية ستبلغ في نهاية المطاف نحو عشرين مليون دولار أميركي، أهدِرَت من المال العام، علماً بأن الشركة تدفع بشكل مواز بدل إشغالها لمقرها الحالي.
الهدف من الانتقال «طبيعي»، لأن أعمال الشركة توسعت كثيراً خلال العقد الماضي، وارتفع عدد مشتركيها وموظفيها، وباتت في حاجة الى مقر أوسع لها. وزارة الاتصالات تقرّ بضرورة نقل مبنى الشركة، وطلبت منها إيجاد خيارات أخرى. امتثلت الشركة لـ»أوامر» حرب، وبعثت برسالة قبل نهاية عام 2014 إلى مالك «كاسابيان»، تبلغه فيها نيتها فسخ العقد ابتداءً من أيلول 2015. وبناءً على ذلك، هدّد المالك باللجوء إلى القضاء، مطالباً بدفع قيمة كامل العقد (إيجار 7 سنوات إضافة إلى ما تقاضاه عن السنوات الثلاث الماضية). «تقريش» ما جرى، بناءً على أوامر حرب، يعني أن على الدولة أن تتعامل مع كل المبالغ التي دُفِعَت في إطار صفقة «مبنى كاسابيان» ــ وما سيُدفع للتسوية «الحبّية» ــ كخسارة من دون أي مقابل. وسيكون على الشركة عقد صفقة جديدة، وتدفع ما ينبغي دفعه لقاء تجهيز مبنى جديد وتكاليف النقل، ما يرفع قيمة الاموال المهدورة إلى نحو 30 مليون دولار. في هذا الوقت، عيّنت شركة «زين» مديراً جديداً لـ»تاتش»، هو الاسترالي بيتر كالياروبولوس. الاخير وجد أن الصفقة خاسرة، وحمّلت الخزينة مبالغ لا منطق في إهدارها. فأبلغ وزارة الاتصالات، بحسب مصادرها، اقتناعه بأن بدل التسوية مع مالك مبنى «كاسابيان» يكفي لاستئجار مقر جديد لنحو 4 سنوات. فأين المنطق في دفع مبلغ للمالك بلا مقابل، ثم استئجار مبنى جديد، والاستمرار في دفع بدل إيجار المقر الحالي؟ وبناءً عليه، اقترح على الوزارة العودة إلى العقد مع مالك «كاسابيان»، ونقل مقر الشركة إليه، ما دام ما أنفق قد أنفق، واختيار مبنى جديد سيحمّل الخزينة تكاليف إضافية.
لكن وزارة الاتصالات رفضت اقتراح كالياروبولوس، وجدّدت طلبها البحث عن خيارات جديدة، رغم ما يعنيه ذلك من خسائر جديدة للخزينة العامة. وعندما سألت «الأخبار» مصادر الوزير حرب عن هذه القضية، نفت في البداية وجود المبنى من أساسه! ثم عادت وأقرّت بالقضية، متحدّثة عن أن المشكلة هي في حالة المبنى نفسه. لكن مصادر في وزارة الاتصالات أكّدت لـ»الأخبار» أن حرب أبلغ فريق عمله وإدارة «تاتش» رفض نقل مقرها إلى منطقة الشياح، لأسباب أمنية، متذرعاً بأن المقر الجديد للشركة سيكون «تحت رحمة حزب الله». وعندما قيل له إن المبنى المستأجر لا يبعد سوى مئات الامتار عن مبنى شركة «ألفا»، أجاب بأن مبنى «ألفا» يقع «في عمق المناطق المسيحية»، وأن مبنى كاسابيان أقرب منه إلى الضاحية الجنوبية!
لكن يبدو أن «فوبيا حزب الله» ليست وحدها الدافع لـ»إهداء» صاحب المبنى أكثر من 15 مليون دولار من الأموال العامة، وإهدار مبالغ إضافية من خزينة الدولة في صفقة جديدة. فحرب يضع نصب عينيه عدداً من المواقع داخل الشركة، يريد أن يستحوذ عليها فريقه السياسي، لأسباب انتخابية (تعيين موظفين) أو أمنية، تبدأ من «داتا الاتصالات»، وصولاً إلى المحكمة الدولية. يجري ذلك على عتبة إجراء مناقصة لتشغيل شبكتي الخلوي، مع ما يعنيه ذلك من فرصة للسياسيين تتيح لهم فرض شروطهم على الشركات، للتوظيف وفتح أبواب استفادة المناصرين... وهنا بيت القصيد.