وجع الهشاشة

«تخيم الجدية على قسمات العناصر الروس، ما يجعلك تشعر بأن في داخل كل منهم دولة عظمى قائمة بذاتها»، حسب قول أحد العسكريين السوريين».
فرّت الدموع من عيني وأنا أقرأ هذه الكلمات القليلة هذا الصباح في مقالة الزميلة مرح ماشي «الروس بين السوريين: نظرة فابتسامة». فوجئت لدرجة أني ضحكت من نفسي، ولم أفهم لم فرّت تلك الدمعة من دون أي فكرة قد تكون خطرت ببالي! شيء يشبه أن تمسَّ سلكاً كهربائياً عارياً دون انتباه. فهمت لمرة معنى أن «تفرّ» الدمعة من العين.

لم بكيت؟ قلت لنفسي. أنا التي كنت قد باشرت القراءة وفي نيتي أن أضحك كثيراً من تلك الحمية العاطفية التي يظهرها البعض للتدخل الروسي في سوريا. لا. إني مخطئة، فالفكرة/ السلك الكهربائي، كانت ماثلة أمامي، هي تلك الفقرة التي قرأتها والتي تتكون من مقطعين: «الجدية على الوجوه» والشعور بأن «داخل كلِّ من الجنود الروس دولة عظمى». نظرة احترام الذات الوطنية وقداسة ما نفعله من أجلها.
كنتُ قد رأيتُ تلك النظرة التي تتحدث عنها الزميلة في مناسبات عدة: بريطانية، ألمانية روسية... بالطبع ليس الروس وحدهم من ينتابه ذاك الشعور، هو شعور «كلاسيكي» عند أبناء الأوطان المكتملة. الحقيقية. تلك التي تملك زمام نفسها. بالمقابل، لا أجد في قلبي المواطني إلا شعوراً بالنقص، باليتم. النظرة التي وصفتها الزميلة في عيون الجنود الروس، جعلتني أنظر كما الأيتام إلى الأولاد المتمتعين بوجود أهاليهم.
فنحن أولاد الأوطان المشوهة بالولادة، مفرخة الحروب الأهلية والمذهبية والصراعات بمختلف أشكالها. الأوطان المهانة يومياً، المذلولة، المتروكة على قارعة الصراعات، أو المستخدمة كمجرد أداة فيها. نحن أولاد الأوطان الـ «جيتابل»، التي ما إن نحصل على مقومات هجرها حتى نرميها خلفنا، نهجرها بمزيد من الحماسة والسرور والارتياح. أوطان العبء الثقيل على القلب والروح والمستقبل. هذا النوع من الارتياح كنت أراه أخيراً بكثرة على وجوه لبنانيين، منذ أن سكنت عمارتنا ثلاث ممثليات لأربع سفارات. كنت ألتقيهم متأبطين باسبوراتهم في الأسانسير، يسألونك، كما لو كنت خبيراً، لمجرد كونك جار السفارة، إن كان يجب عليهم فعل هذا أو ذاك من الأمور للحصول على تأشيرة. ليس بينهم سائح واحد. كلهم مهاجرون. مستعدون لانتحال صفة سوري (ما دام الموسم هو موسم السوريين في الهجرة إلى الشمال) ليحصلوا على إقامة ومواطنة في تلك البلدان التي لم يتعبوا قط في بنائها. كان هؤلاء هم الصورة الأخرى، الصورة المقابلة للجنود الروس في سوريا، التي أدت إلى بكائي وتألمي.
نستحي بلغتنا العربية، بل بعروبتنا، نستحي بأسمائنا، بثيابنا، بعاداتنا، بجيشنا، بعلمنا أبو قرنبيطة، (هناك من يقول إنه العلم الفيجيتاريان الوحيد في العالم) بنوابنا، بصحافتنا، بمثقفينا، بقضائنا. نستحي بعجزنا عن التغيير، وبجهل أكثرنا بحقوقه وواجباته وتاريخه. تاريخنا؟ حافل فعلاً، ولا شك مفيد، لكنه غير مكتوب. تاريخنا غير مسموحة كتابته. يتناقله الأبناء عن الآباء شفهياً، وكل ينقل لأبنائه «روايته» لما حدث. تاريخنا الحقيقي مكتوب في الصحف، وحين لم تكن صحف؟ لا شيء إلا ربما الجدات والحكواتي. هكذا تنشأ أجيال على الشقاق، وعلى كتم الحقد بانتظار دورة الحرب المقبلة.
نحن بلا وطن. هذا ما فهمته بعد عشرين عاماً من المشاركة والتزام قضايا المواطنة. فشلنا لأننا نفتقر إلى مقومات الأوطان. إلى مواد البناء الأولية: كلنا هياكل هشّة، تذروها الرياح، وتميل بها النسمات حسب الهبوب، وطن يشبه فزاعة القش في الحقل، تحطّ فوقها كل الطيور، تسرق حبوب الحقل أمام عينيها الجامدتين، وتبول عليها دون أدنى خوف، ثم تطير.
قبل قراءة تلك الفقرة في المقالة لم أكن أدرك حجم الخيبة والألم الكامنين في قلبي. صحيح هناك حراك مدني وأن الناس «طق شرش حيائها» (والشكر لله) أمام الزعامات ورؤساء الطوائف ومقدسي القضاء والنيابة والوزارة والرئاسة وأصحاب المصارف والميليشيات من كل الأنواع، إلا أن أجيالاً وأجيالاً لا تزال تفصلنا عن تلك النظرة في عين الجندي الروسي. نظرة الفخر بالأوطان. وحتى ذلك الحين البعيد، لا أملك أية أدوية تخفف من وجع الهشاشة، ذاك الوجع المزمن الذي اكتشفته أخيراً في قلبي. ولا أشك لحظة انكم تشاركوني فيه.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم