يروي أحد طباخي زواريب السياسة اللبنانية، أنه عند استئناف مساعي التسوية بين عون والفريق الحريري قبل أسبوعين، حول قضية الحكومة والجيش، وصلت الأمور إلى معادلة ــ باتت معروفة الآن، بعد تعثرها ــ تقول بإحياء المجلس العسكري برمته، أي أن سلة الصفقة راحت تنتفخ تدريجاً. بدأت بترقية ثلاثة عمداء إلى رتبة لواء، مقابل تسوية آلية عمل الحكومة.
ثم توسعت لتصل إلى تكريس المراكز الثلاثة الممدد لها: قيادة الجيش ورئاسة الأركان والأمانة العامة للمجلس الأعلى للدفاع. ومن هنا، وصل البحث إلى مطالبة عون بحقه في تسمية العضوين الأرثوذكسي والكاثوليكي في المجلس العسكري، قبل أن تترنح التسوية وتتجمد، أو تجهض وتسقط، كما يقول البعض.
المهم، كما يروي الطباخ العتيق، أن المساعي توقفت عند هذه النقطة بالذات. لماذا؟ هنا تبدأ الحكاية الغريبة المريبة.
ثمة أكثر من قراءة وتفسير وتبرير لفشل محاولات التسوية التي كانت قائمة طيلة الفترة الماضية. إحدى القراءات، والتي يتبناها أكثر من قطب من أقطاب طاولة الحوار، تقول بأن السبب الحقيقي لفشل المساعي هو انهيار سعد الحريري. يعتقد أحد الأقطاب أن زعيم «المستقبل» انتهى كلياً بالمعنى السياسي. لم يعد له أي وجود ولا أي ثقل في تياره. الأسباب متعددة. منها ما هو سعودي طبعاً، ومتشعب بدوره. فيه الشق المالي والحصار الريالي المضروب على الرجل، وانعكاساته على جماعته وبيئته في بيروت. وفيه أيضاً الشق السياسي، الذي يطرح التساؤلات حول أسباب هذه العزلة السعودية للرجل، وخلفياتها وما يمكن أن تكون أهدافها ومؤدياتها. ثم هناك البعد اللبناني «المستقبلي» الداخلي لأزمة الحريري. صراعات الدواخل العائلية والحزبية والسنية. وظهور طموحات معلنة وأخرى كامنة لوراثة الرجل سياسياً. كل هذا، يقولون، أدى إلى إصابة سعد الحريري بالعجز السياسي، وأفضى إلى فشله في الإيفاء بتعهداته والوعود. وفي النهاية، كانت صفقة الحكومة ــ الترقية مثالاً على هذين العجز والفشل.
قراءة ثانية، تقول إن سبب الفشل لا يكمن في قدرة الحريري، بل في رغبته. على مدى الأسابيع الماضية، وفيما كانت المفاوضات تنتقل من لقاء غير معلن إلى ورقة غير مكتوبة، كان أحد المسؤولين المعنيين مباشرة بالتسوية، يردد همساً وسراً لأحد أطرافها: كيف يعقل أن تكونوا بهذه السذاجة؟ كيف يمكن لمفاوضيكم أن يؤخذوا بهذه المناورة؟! سعد الحريري يخدعكم. منذ اللحظة الأولى يقوم بخداعكم. العقدة ليست عندنا. بل عنده، منذ البداية. منذ لقاء باريس في كانون الثاني 2013، وهو يناور عليكم. خدعكم أولاً في الرئاسة، حين أقنعكم بأن لا مشكلة لديه مع عون. ثم ترككم تحللون وتستنتجون بأن المشكلة تارة سعودية مع سعود الفيصل، وتارة داخلية مع سمير جعجع. بعدها رحل الفيصل وتفاهمتم مع جعجع ولم تذلل مشكلتكم الرئاسية. ثم خدعكم مرة ثانية عند تشكيل الحكومة. أعطيتموه أكثريتها، مقابل صفقة وهمية حول خريطة طريق، تبدأ بقانون الانتخاب وتنتهي في قصر بعبدا. لتكتشفوا لاحقاً أن الصفقة انتهت على باب السرايا لا غير ولا بوصة أبعد. وظللتم تبررونه بعجزه، وهو يضحك في سره وعبّه. حتى خدعكم مرة ثالثة في موضوع قيادة الجيش. ترككم تتوهمون في 18 شباط أنكم عقدتم معه صفقة شامل روكز ــ عماد عثمان. ليذهب هو في اليوم التالي ويبلغ المعنيين مباشرة أنه ليس ماشياً معكم في أي اتفاق. ومع ذلك فضلتم تصديقه على تصديق من صدقكم. حتى تمكن من خداعكم مرة رابعة في قضية الترقيات. وحتى أخذتم بالخديعة مرة رابعة. في حساباته، كان يستحيل قبوله بترقية روكز، حتى لا تجددوا المعركة معه بعد أشهر على قيادة الجيش. وفي حساباتكم كان يستحيل أن يذهب إلى تعريض الحكومة للسقوط، حتى لا يهتز الطائف وتسقط مكاسب 13 تشرين «الأول». فيما الرهانات الحقيقية في مكان آخر...
من هذا المكان الآخر، تنطلق قراءة ثالثة لفشل مساعي التسوية الأخيرة. يقول الطباخ السالف ذكره، إن كل المعنيين بالمأزق اللبناني مدركون أنه سيستمر طويلاً بعد. لا عامل داخلياً سيبدل توازن الشلل القائم. ولا تطور خارجياً قادر على فرض أي حل أو مخرج. وهذا ما دفع بعض الخارج، وبعض حسابات الدبلوماسيين في بيروت، إلى التفكير في حل قيصري. حل يبدأ بفوضى الشارع. ثم يتدحرج مع فراغات المؤسسات. حتى يبلغ حد إعلان تمام سلام استقالة حكومته. خطوة تأتي في ظل شغور رئاسي، وجمود برلماني، وحراك شعبي فوضوي، ومخاطر مالية وأعباء شعب نازح... وتخل دولي. فيصير عندها العسكر هو الحل. وتصبح العسكرة هي المخرج الوحيد الممكن. إما بتكليف مباشر من سلام، في شكل متزامن مع خطوة استقالته، وإما بحكم الأمر الواقع. هذا السيناريو بالذات، هو ما أفشل تسوية الترقيات، يؤكد الطباخ. لأن المجلس العسكري القائم هو من سيتولى إدارة البلد الفوضى. وتركيبته الحالية هي الوحيدة المقبولة من المخططين لتلك المغامرة، في الخارج والداخل. هكذا، في الأمتار الأخيرة الفاصلة عن ذلك النفق، جاء ميشال عون يبحث في تبديل تركيبة «مجلس قيادة الثورة» وتغيير توازناته. فسقط مطلبه، وبدأ العد التنازلي للبلاغ رقم واحد!
كثيرون يعتقدون أن العسكرة في بلد مثل لبنان وهم. وأن تجارب مريرة عدة أكدت ذلك. لكن من يضمن أن أهل القرار يعرفون تاريخنا وحاضرنا، أو أن يكونوا حريصين على المستقبل؟!