الإعلام الشرس

ليست المرة الأولى، ولانها كذلك فليس من المسموح به التغاضي عن الأمر. ما الذي دهى وسائل الاعلام لاذاعة خبر الافراج القريب عن العسكريين المخطوفين لدى جبهة النصرة «خلال ساعات»؟ الم يتعظ الزملاء من المرات السابقة التي اعلنوا فيها اقتراب القضية من نهاية سعيدة، فتحول بـ«فضل» تسريبهم الخبر الى طريق مسدود؟
قد لا تتحمل الوسائل الاعلامية المسؤولية بكاملها، ولا شك ان امورا اخرى حدثت واعاقت مسار الأمور، لكن وضع هذا المسار تحت الضوء في هذا التوقيت الحساس، لا شك غيّر شيئا ما لم يكن في مصلحة المفاوض اللبناني.

فالتفاوض تحت الأضواء يجعل الخاطفين ينظرون الى انعكاس صورتهم في الخبر: هذا الإنعكاس قد يثير استياءهم بسبب «التشفي» او «النصر» الذي قد يحس به الأهالي او حتى الوسيلة الإعلامية ان كانت تنتمي الى الخندق المعادي لهم، وهي امور حصلت كلها في تغطية الخبر.
والحق يقال، ان الخبر مغر. ومن البديهي انه يحق لوسائل الاعلام ان تذيعه كسبق، لكن، إن كانت حياة المخطوفين ومصير التفاوض في خطر فهل يصبح للسبق معنى؟ هل يصبح للحق معنى؟
الخبر هذه المرة بثته اولا قناتا «ان بي أن» و«الميادين». القناتان تنفيان اليوم انهما كانتا السباقتين الى اذاعة الخبر. يفيدنا مصدر مسؤول في «الميادين» انهم منذ شهور يمتنعون عن نشر اي خبر له علاقة بالعسكريين المخطوفين «التزاما منا بما طلبه المفاوض اللبناني»، ويشير الى «اخبار كثيرة من مراسلنا في البقاع وردت اكثر من مرة ولم ننشرها»، لكنه يبرر نشر خبرهم هذه المرة بأن «وسائل الاعلام كلها نشرت الخبر».
اما «ان بي أن» فيقول رئيس مجلس ادارتها الزميل قاسم سويد، الذي يعود اليه رؤساء تحرير الاخبار في الملفات «الدقيقة» بحسب تعبيره، انهم لم يفعلوا اكثر من نشر خبر بدون اي تفاصيل "لأن غيرنا كان سينشره بالتأكيد". والخبر كان التالي «مصادر مطلعة للـ NBN: من المتوقع الافراج عن العسكريين المخطوفين لدى "جبهة النصرة" الليلة». ويضيف : «أؤكد لك ليس الإعلام الذي افشل المفاوضات، الآن اتحدث عن معلومات ولا اقول رأيا، وإن كان هناك من دور للإعلام، فليس الخبر هو المدان بل كيف تصرف البعض بالخبر، من نوع ما قاله «الخبراء» الذين عجت بهم الشاشات وكل يدلي بما في جعبته حول تفاصيل الصفقة».
في الحقيقة اجد صعوبة في تبرئة وسائل الإعلام من تعثر المفاوضات حتى لو لم تكن السبب المباشر، فالالتزام بأمن لبنانيين مخطوفين هو اهم بكثير من الالتزام بنشر خبر. مجرد الشك بتعريض امن هؤلاء ومصير الصفقة للخطر يجب ان يكون وازعا للاعلام.
لكن الصعوبة في تبرئة الإعلام لا تأتي من هذه الحادثة فقط بل لأن قلوبنا كمشاهدين «معباية» من الخيارات المهنية لبعضه. وهنا ندخل قضية اخرى ما زالت ماثلة ونتعرض لمثلها بين فينة وأخرى، الا وهي عرض اشلاء الضحايا لدى حدوث انفجار.
تنبهت الى المدى الذي وصل اليه التمادي في هذا الملف حين قالت لي ابنة اختي المهاجرة حديثا الى لندن لاكمال دراستها «خالتو.. تصوري ما شفنا ولا نقطة دم ع التلفزيونات»! كانت تشاهد انفجارات باريس وتتابع الاخبار حين لاحظت هذا الأمر. كان الأمر بديهيا لي انا التي عشت عقدا من الزمن في اوروبا، لكن بالنسبة إليها، هي الخارجة حديثا وللمرة الأولى من لبنان، كان الامر مذهلا!
استحضر قولها في عقلي المشاهد الفظيعة التي عرضتها قناة المنار مثلا يوم انفجار برج البراجنة، ذلك اني كنت اتابع عبرها الحدث لقربها من المكان. المنار، قناة المقاومة مبدئيا! ماذا فعلت القناة؟ بكل بساطة اقتحمت مسرح الجريمة الذي يجب الّا يقتحمه احد، وفتحت عدسات كاميراتها التي كانت تنقل مباشرة عمليات الإنقاذ، دون ان يرف لها جفن امام ما كانت تعرضه علينا من.. اشلاء دامية وامعاء مبقورة. لا بل انها «فنجرت» عينها متفرسة، ونحن معها بالطبع، بقطعة لحم حمراء كانت في كف احد المسعفين: كان الشاب، الذي لبس قفازات طبية، يتفرس بالكبد الأحمر، المندلق للتو من بطن احد الضحايا! وقفت العدسة مثله، تتفرس بالكبد الفالت من جسد صاحبه، واكاد اقول انه كان لا يزال ينبض! لم؟ كيف يحق لقناة، اي قناة، ان تقتحم مسرح الجريمة لتنقل الينا صور اجسادا هتكت حرمتها القنبلة؟
في آداب المسلمين، عندما يموت الإنسان، يغطى جسده ووجهه. دائما ما كنت اتساءل لمَ نغطي وجوه الموتى؟ هو احساس اخلاقي نابع من انسانيتنا: نضع أنفسنا مكان الفقيد او الجريح، نتماهى معه فنحس انّ علينا ان نستره منعا لاستباحته في لحظة ضعف. إنه تصرف انساني بالمعنى المضاد للحيواني.
اما النقطة الثانية، فهي تعودنا بسبب تلك التغطيات (والقنوات الفلسطينية بطلة بهذا المعنى السيّئ للكلمة) ان الجسد العربي مستباح، يمكننا ان نراه في كل احواله وأن نتلصص على موته واستباحته والأهم أن نعتد تلك الصورة. عن اي قناة اتحدث؟ عن القناة التي تريد ان تنشر ثقافة المقاومة، ان تعيد ترميم صورة العربي المهزوم. كأن الهزيمة تجري فقط في ساحة المعركة!
ماذا لو كانت الأجساد المنتهكة بالإنفجار تكشف عورة ما؟ أكانت ساعتها قناة المنار ستتدارك البث المباشر وتوقفه؟
الأرجح ان تكون الإجابة بنعم، لكن، ايها الزملاء: العورات لا تقتصر على تلك المناطق من الجسد، فهذا النوع من النقل المباشر الشرس والعاري من اي التزام اخلاقي، وذلك النوع من التعاطي غير المسؤول مع خبر بغض النظر عن حيوات الناس، هو العورة الأم، لا بل انه يكشف عورات اخرى، ثقافية وإجتماعية ونفسية، ربما كان إكتشافنا لها في من يديرون تلك التغطيات هو العيب بحد ذاته.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم