يوم زينب *

لم أكن أعلم أنها ستكون المرة الأخيرة، تلك المكالمة الطويلة التي ثرثرنا فيها ضاحكتين من السرطان. جمعتنا زمالة المرض بعد زمالة المهنة والخيارات الحياتية. لكن حظي كان أفضل. فقد اكتشفت المرض باكراً. مع أنه سرق من عمري سنة بكاملها بين علاج ونقاهة، إلا أني شُفيت.

ثرثرنا ضاحكتين بتواطؤ العارف بكيفية حصول الأمور عند مريض السرطان. سخرنا من ارتباك الناس، ما يقولونه وما يفعلونه، سخرنا من الكلمات التي تنزلق في غير محلها، ومن ذلك الإحساس الذي يستشفه المريض عند عواده، من أن نهايته قد اقتربت. كأن الموت لا يقتل غير المرضى بالسرطان.
لكن، إضافة إلى ثرثرتنا في تلك المكالمة التي انتهت بوعدك أن تتصلي ما إن تتحسني قليلاً وتصبحين قادرة على استقبال الأصدقاء، وهو اتصال لم يأتِ، تداعت الى ذاكرتي مشاهد من زمالتنا «اللدودة» مهنياً، لتُضحكني. كنا دائماً في سباق لا نعترف أنه كذلك، لكنه بادٍ للجميع. واستفادت «السفير» كثيراً من تلك المنافسة.

ليس من يموت وحده من يشعر بشريط حياته يفتل أمامه، أصدقاؤه أيضاً وأحبابه، يستعرضون شريط حياتهم معه. في شريطنا المشترك، من «صوت الشعب» إلى «السفير» تومض مشاهد من تلك الحياة المشتركة، كما يومض الألماس في منجم فحم.
لكن المشهد الأقوى الذي يبقى ماثلاً أمامي، هو حين رأيتك للمرة الأخيرة في مركز التسوق أسفل الجريدة، كنتِ جالسةً تتناولين طعام الغذاء... وحدك. بدوتِ لي، أنتِ التي كنت قد خرجت للتو من معالجة كيميائية أعطتك بصيص أمل في استعادة صحتك، وكأنك تحاولين، عبر تلك الجلسة وحدك أمام صحون الفتوش والكبة والبطاطا المقلية، استعادة يومياتك العادية التي سلبها المرض. فعلتُ ذلك قبلك. فمريض السرطان يفقد حاسة الذوق بسبب العلاج الكيميائي، وحين ينتهي، يستعيد المريض تلك الحاسة. هذا بالضبط ما كنت تفعلينه: كنت تحتفين بالتلذّذ باستعادة طعم الحياة العادية. كأن ممارسة طقوس تلك الحياة، ستعيد بشكل سحري صحتك اليك. كانك تقولين: تكفيني أشياء قليلة لأكون بمزاج جيد. كأنك تساومين شخصاً غير مرئي، على بقية حياتك.
يا زينب، صحيح ما قلناه في تلك المكالمة بعد ضحكاتنا الكثيرة المتواطئة: في النهاية سنموت يوماً بشكل أو بآخر. وإن المهم في نهاية كل إنسان، هو ذاك الشعور بالرضى حين ينظر من علياء موته الى ما عاشه. ترى أأحسست بذاك الرضى؟ لا تكوني ظالمة بحق نفسك. من حقك الشعور بذلك.
اليوم قالوا إنهم سيوارونك الثرى. اليوم؟ في هذا الصقيع؟ يا الله... علّ التراب يكون دافئاً عليك يا صديقة. لا شك أنه هناك، في قريتك التي أحببت، مسقط رأسك ومثواك الأخير، سيكون أدفأ.
لُفّي نفسك جيداً يا زينب. وإلى اللقاء.

*ووريت الزميلة زينب ياغي (أسرة السفير) الثرى اليوم في بلدتها زوطر الشرقية. تقبل التعازي غدا وبعد غد في منزل شقيقها د. حسين ياغي في البلدة، وفي بيروت يوم الأحد بين الثالثة والسادسة بعد الظهر في مقر جمعية التخصص والتوجيه العلمي. تتقدم "الأخبار"بأحرّ تعازيها لذوي الفقيدة ولأسرة الزميلة "السفير".

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم