كان يوماً "أسود من سواد السخام" بالنسبة إلى صديقي أحمد. أذكر جيداً ما قاله له والده يومها شاتماً نفسه في الوقت ذاته: "وَلَك الله يلعنك... جبتلنا العار يا ابن الكلب!".
■ ■ ■


"ألا لعنة الله عليك يا "نابليون بونابرت"! أذكر أنني فعلتها وقتها، وتمتمتُ لاعناً بحقد يغلي في داخلي كالمرجل هذا الامبراطور الفرنسي الذي صارت عظامه "مكاحل" كما يقول المثل عندنا، لسبب كان محورياً بالنسبة إليّ: لأنه أول من ابتكر نظام "البكالوريا" في فرنسا (ما يوازي عندنا "الثانوية العامة" أو "التوجيهي" كما نعرفه بلهجتنا الفلسطينية)، وهي اللعنة التي انتقلت إلى العالم العربي لاحقاً. فلتلحق بك لعناتي أنا وكل من استاء من نظام التوجيهي البائس إلى أبد الآبدين يا "بونابرت" يا واطي!

■ ■ ■


أنتم لا تعرفون قيمة الدرجات في "شهادة التوجيهي" في مجتمعنا: إنها ليست متعلقة فقط بمدى إمكانية التحاقك بتخصص ما، أو أن تضمن لك منحة دراسة بحسب المعدل الذي تحصل عليه. هنالك "مصائب أخرى" يعرفها جيداً أبناء مجتمعي: يصبح معدلك فجأة فرصة لـ"مكايدة النسوان" وإمكانية معايرة أهلك بمعدلك البائس أو رسوبك أو أن "ابنها اسم الله عليه جايب في توجيهي أكتر منك ابنك "السقيطة" ( بتعريف قاموس مصطلحاتنا الفلسطينية: "السقيطة" و"الساقط" مصطلحان يطلقان على الراسب دراسياً أو ذي العلامات الدراسية المنخفضة).
ويوم نتائج "التوجيهي" في بلدنا يوم مشهود: الكل يسعى إلى الحصول على نسخة النتائج من الصحف المحلية التي كانت تطبعها بالأسماء، كما كانت الإذاعات المحلية وقتها تخصص اليوم بكامله لبث نتائج طلاب مدارس قطاع غزة ومعدلاتهم بأكملها. إنه يوم تاريخي في مخيمنا بكل تأكيد. كانت تلك الصحيفة عبارة عن سجل عام "للمفاخر والمخازي" كما يراها مخيمنا. بإمكانك يومها أن تشم رائحة "صدور الحلويات" الساخنة من بيوت أبناء جيرانك من الناجحين، وأن تسمع أصوات الزغاريد وأغاني الفرح والرصاص "بيلعلع في السما" في مناطق متفرقة من حَيِّك، وكأن فلسطين قد تحررت فجأة!
بالمقابل، تشعر في البيوت الأخرى وكأن أحد أفراد العائلة قد توفاه الله. قد تحدو بجيرانهم وأحبائهم الرغبة بأن يقدموا "واجب العزاء" في "مجموع التوجيهي تبع ابنهم"، فيما تبدأ الأمهات بجلسات "لطم منظمة" تتفوق فيها على لطميات "الحسينيات الشيعية" في ذكرى "كربلاء"، مستمطرة الدعوات بتشكيلاتها السوداوية المختلفة من رب السموات العُلى على رأس ابنها "السقيطة اللي جابلهم العار قدام اللي بيسوى وبيسواش" من أهل المخيم، وكأن الفتى قد باع القدس أو تم ضبطه بجريمة "التخابر مع العدو"! وتتفرع بعدها المسألة إلى ندب الحظ والشكوى من هذا الجيل "اللي ما بينفع لإشي الله الوكيل"، ما يدفعني إلى تذكر عبارة ذكرها الفنان "رجائي قواس" في مقطعه الفكاهي حول "الأم" على لسان إحدى الأمهات: " يا ريتني خلفت (أنجبت) "بسكليت" ولا خلفتك"!!
كان صديقي "أحمد" من الفئة الثانية للأسف الشديد..

■ ■ ■


هل هنالك من هو حنون علينا مثل البحر؟ يكفي أن تجلس هناك على شاطئه، لتدخن سيجارتك وتلقي فيه همومك وقد غشاك الصمت، فيما يأتيك صوته الرتيب كأنه عجوز حكيم يريد أن يواسيك ويقول لك:" اهدأ! إن مع العسر يسراً"، لتمضي بعدها إلى بيتك هادئ البال. هناك جلسنا أنا وأحمد، محاولاً مواساته في مصابه "الجلل": لقد رفض أبوه دخوله إلى "القسم الأدبي" في السنة الحادية عشرة من تعليمنا، وصار يضربه بجنون وكأن الفتى طلب من أبيه الالتحاق بأحد "الكازينوهات" أو مدارس الرقص الشرقي مع الحاجة "دينا" والأخت "صافيناز"!!
قال لي بصوت باكٍ: "تخيّل إنو حلف بالطلاق إنو لو دخلت أنا "أدبي" (أي "القسم الأدبي") راح يطردني برا الدار! قال إيش؟! ما فيه حدا من العيلة بيدخل "أدبي" إلا "السقايط" و"الهَمَل". حاولت أن أشرح له: يابا أنا الكيميا والفيزيا والرياضيات المعمقة تبع "العلمي" ما بأطيقهمش وما بيدخلوش راسي، وأنا بأحب الانكليزي والتاريخ والفلسفة وعلاماتي فيهن عالية. ع الفاضي يا حاج! كأنك بتكتب ع المَيِّة. جبت خالي "أبو خالد" يحكي معاه. قلت لإمي: "والله لأسقط. روحي اقنعيه. فهميه". الله وكيلك راكب راسو".
"والعمل؟؟"
"تسألنيش. مش عارف يا صاحبي... خليها على الله وبس..."!

■ ■ ■


دخلنا معاً تلك المرحلة البائسة التي سمّيناها تندّراً مرحلة "التوجيعي"، لكثرة الضغوط التي أورثتنا إياها: لو كنتَ تدرس لساعات بعد عودتك للمدرسة، ثم أردت الترويح عن نفسك بأن تخرج من المنزل لدقائق "منشان تشم شوية هوا" ستجد والدتك أمام الباب "الله وكيلك واقفالك ع النقرة": "وين طالع؟! من الصبح ما شفتك لا قريت وفتحت كتاب"!! فتعود على عقبيك إلى "غرفة الأولاد" لتجلس في ملل. قد تصل المسألة إلى درجة أنك لو أردت الذهاب إلى الحمام، سيقولون لك: "ولك ليش رايح ع الحمام؟! انتا الحقت تدرس منشان تطلع من غرفتك ولا؟!".
الخروج من المنزل بحساب والدخول بحساب. إذا خرجتَ من البيت لشراء أغراض ما "من باب تغيير الجو"، وجدتَ بعض طلبة الجامعات من مخيمنا الذي يقولون لك شامتين "لأنو بدهم يطلعوا القرف اللي شافوه أيام توجيهي عليك": "وين رايح يا حبيبي؟! روح اقرا لتوجيهي تبعك أحسنلك!!". ونظامنا التعليمي - ولله الحمد - لا يطلب منك أكثر من أن تكون "ريكوردر" - آلة تسجيل يعني - احفظ المعلومات دونما تفكير أو تمحيص أو تحليل و"يخلف عليك وعلى أهلك" وقدمها كما هي في أوراق الامتحانات.
الجارات والقريبات يسألن أمي: "هاه؟! شو أخبار ابنك؟ بيدرس والا لأ؟!". وكذلك الحال مع الأقرباء وجيراننا من الرجال بالنسبة إلى والدي. نحن فئة "المنكوبين" في "التوجيهي" "نزل علينا التدين فجأة وصرنا مكسرين عتبات الجوامع من كتر الروحات والجَيَّات عليها، وبنصلي كل الصلوات في وقتها لعل وعسى الله ينجحنا"! مع كل هذا الضغط، تحول هذا "التوجيهي" إلى "بعبع" ضخم نتمنى الخلاص منه ومن أعبائه "اليوم قبل بكرا". إن الحديث عن مآسي تلك الأيام لا توفيه حقه مجلدات بأكملها. كلما تذكرتُ تلك الأيام السوداء تمتمت: "الله لا يكسبك يا "بونابرت"!! ".

■ ■ ■


انتهى هذا الكابوس أخيراً، وجاءت النتائج لتؤكد ما كنتُ متأكداً منه أنا وأحمد: لقد رسب! إنه يوم أسود كيوم "سقوط القدس": وقد فر أحمد إلى منزل صديقنا خالد طلباً لـ"اللجوء الإنساني" لعدة أيام، ريثما ينتهي "إعصار توجيهي" الذي حدث في منزلهم، بعدما استمطر عليه والداه كل ما في السموات والأرض من لعنات بسبب "العار" الذي ارتكبه. كانت مأساة أحمد قد خيمت علينا جميعاً وجعلت نجاحنا في "التوجيهي" بطعم العلقم، وخاصة أن "الشامتين" لم يوفروا أي مظهر من مظاهر الشماتة لديهم إلا أظهروه بمنتهى القسوة، وبطرق هي أقرب إلى أساليب التعذيب النفسي. لقد بدت لنا معضلته بلا حل حتى لو أرادت الأمم المتحدة وحلف "الناتو" معاً التدخل لحلها. بعد "مساعٍ دبلوماسية مكثفة" من قبل أخواله، تمكن أحمد أخيراً من الرجوع إلى المنزل، وإن أمر أبوه الجميع بمعاملته كـ"منبوذ" وحرمانه من كل الامتيازات التي كان يحظى بها سابقاً... بما فيها المصروف.
في سنتي الأولى الجامعية، بقينا على علاقتنا مع أحمد، وإن كنا نتحاشى القدوم إليه في وقت وجود أبيه في المنزل، لنخرج إلى مكاننا المفضل: البحر. استسلم والده للأمر الواقع، وسمح له بالدراسة في "الفرع الأدبي" - أرجو ألا يسألني أحدكم كيف حل مسألة "الحلفان بالطلاق" لأنني لا أملك جواباً! - لنفاجأ جميعاً بالصاعقة في السنة التالية: لقد نجح أحمد بتوفيق باهر! ليس هذا فحسب، بل تمكن من الحصول على منحة دراسية إلى اليونان حيثُ استحصل من هناك على شهادة في الحقوق، والآن أصبح واحداً من موظفي إحدى المؤسسات الدولية المرموقة في قطاع غزة، بتطوير قدراته باللغة الإنكليزية، براتب – اللهم لا حسد! - يفوق راتبي أنا بأربعة أضعاف! وكلما رأيته الآن، تذكرتُ ذلك الشاب الذي حاولوا وصمه بالفشل من خلال "التوجيعي" فانتصر عليهم جميعاً وحده... ونجح! الآن أستطيع القول: تقبّل تهانيّ الحارة يا صاحبي ويكفي "شامتي الأمس" ما هم فيه من بؤس وضنك العيش!