شهد التونسيون، مساء أول من أمس، على إسقاط كتل "الائتلاف الحاكم" البرلمانية (نداء تونس، حركة النهضة، آفاق تونس والاتحاد الوطني الحر) لحكومة الرئيس الحبيب الصيد في البرلمان، إثر رفض تجديد الثقة لها.

ومن المتوقع أن تُعرف هوية رئيس الحكومة الجديد بعد أقل من عشرة أيام، وهي المهلة الزمنية المحددة دستورياً (في الفصل 89) لرئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، "لإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر"، ومن الممكن تجديده لشهر آخر.
أزمة حكومة؟

في الظاهر، بدأت أزمة استمرارية حكومة الحبيب الصيد بعدما أشار الرئيس التونسي، خلال حديث متلفز أجراه في بداية شهر حزيران/ جوان الماضي، إلى رغبته في تشكيل "حكومة وحدة وطنية" كنتيجة لمشاورات سياسية سابقة، وهو الإعلان الذي "تفاجأ" به الصيد، برغم كثرة الحديث بخصوصه في البلاد قبل مقابلة السبسي بأيام، لا بل بأسابيع.
لكن في واقع الأمر، فإنّ حكومة الصيد كانت قد فقدت قبل أشهر دعامتها التي تشكلت بالارتكاز إليها، أي "حزب نداء تونس"، وذلك إثر تصاعد حدة الخلافات الداخلية بفعل "صراع الأقطاب" الذي سيؤدي في وقت لاحق إلى انشقاق كتلة مهمة يقودها "السياسي الطموح"، محسن مرزوق، وإلى خروج شخصيات مهمة أخرى. وهذا مما يفسّر كثرة الحديث عن التغيير الحكومي على أكثر من مستوى.
بينما يعتبر الأكاديمي التونسي في مجال علم الاجتماع، فؤاد غربالي، في حديث إلى "الأخبار"، أنّ "تغيير الحكومة بالنسبة لفئات كثيرة من المجتمع التونسي لم يكن مفاجئاً نظراً إلى الضجة المتعلقة بحكومة الوحدة الوطنية التي سبقت سحب الثقة من حكومة الصيد، التي يبدو أنها فشلت وخاصة على مستوى إيجاد حلول للمسألة الاجتماعية ومحاربة الفساد"، فإنه يستدرك بالقول إنّ "هذا الفشل لا يفسر وحده إسقاط الغطاء السياسي عن الحكومة"، إذ إنّ الحبيب الصيد، وفقاً له، لا يمتلك تجربة سياسية وحساً سياسياً يمكنانه من التعامل مع التناقضات السياسية بين الأطراف الحاكمة على غرار المشاكل التي عصفت بقائد "الائتلاف الحاكم"، "نداء تونس".
من هذه الزاوية، يمكن القول إنّ الصيد، الذي يجري إخراجه حالياً من المشهد السياسي تحت سقف "إنقاذ البلاد، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة التي لم تستطع حكومته مواجهتها"، هو ضحية "صراع الأقطاب" الذي شهده "النداء"، والذي يخرج منه حالياً نجل الرئيس التونسي، حافظ قائد السبسي، بصفته "قطباً أساسياً"، بانتصار معلن. ومن الجدير ذكره مثلاً، أنه كان لافتاً خلال "جلسة الثقة" اعتبار النائب عن "الجبهة الشعبية"، عمار عمروسية، أنّ الرئيس التونسي يقود حكماً يخضع للوبيات الفساد ورجال أعمال يستغلون نفوذهم على حساب الدولة، متوجهاً إليه بالقول: "شد ولدك... ولدك في دارك موش في حزبك"، وهي العبارة التي سيتلقفها طيف تونسي واسع فتغزو مواقع التواصل الاجتماعي.

ربما أصبح الوقت مناسباً لكي يقيّم التونسيون أداء "نداء تونس"


الصيد يُحرج "القصر"

هناك اعتقاد واسع بأنّ حافظ قائد السبسي هو من أخرج الحبيب الصيد عملياً من الحكم، وذلك بهدف تثبيت سلطته ونفوذه في الحزب الذي أسسه والده قبل نحو أربعة أعوام، وبهدف تمكين هذا الحزب من التجانس بعد الهزات والانشقاقات التي تلقاها فيستعيد في حينه النفوذ في الحكومة، وخاصة أنّ الصيد على خلاف مع نجل الرئيس. وإنّ ما قد يشبه انقلاب القصر، باستطاعة حافظ قائد السبسي تنفيذه، وخصوصاً أنه ليس وحيداً، بل هو يشبه "الشجرة التي تخفي الغابة التي تحتوي بدورها على رجال أعمال وسفراء... وحتى مخابرات"، وفق تعبير ناشطة وصحافية تونسية.
يوافق فؤاد غربالي "إلى حد ما" على مقولة أنّ رئيس الحكومة "خرج بضغط من لوبيات الفساد والمصالح"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أنّ الصيد "لم يتجرأ على قول الحقيقة أمام مجلس النواب، ولم يصارح الشعب بالحقائق المتعلقة بالفساد، وهذا لا يشكل مفاجأة، إذ إنه عمل إدارياً في نظام بن علي الذي كان قائماً على منظومة فساد، ولم يسبق له أن احتج على ذلك". لكن برغم ذلك، فإنّ نقطة إيجابية سجّلها الصيد حين رفض الإقدام على الاستقالة التي دُفع إليها، وبقي مصرّاً على اللجوء إلى الفصل 98 من الدستور الذي يسمح له "بأن يطرح على مجلس نواب الشعب التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة (حكومته) لنشاطها". وقد رأى أستاذ العلوم السياسية التونسي، حاتم مراد، في إصرار الصيد موقفاً بحث من خلاله على إعادة التأكيد على برلمانية النظام التونسي القائم على دستور عام 2014، الذي كان الباجي قائد السبسي يسعى إلى تحويله إلى نظام رئاسي. وهذا الإصرار هو الذي دفع ربما الرئيس التونسي إلى القول قبل أيام أمام عدد من الصحافيين (كما نقل الأستاذ صلاح الدين الجورشي)، إنه "يتحمل مسؤولية اختيار الصيد وترشيحه لكي يتولى رئاسة الحكومة، رغم اعتراض معظم كوادر حزب نداء تونس، الذين كانوا في غمرة شعورهم بالانتصار".
وفي السياق، فإنّ الصيد نجح في تقديم نفسه على أنه "رجل مؤسسات"، وقد اعتبر المحلل السياسي والمدوّن التونسي، يوسف الشريف، في حديث إذاعي، أنّ "ما رأيناه كان تمريناً ديموقراطياً كبيراً (إذ هي) المرة الأولى في تاريخ تونس التي تختار الحكومة فيها أن تقف أمام البرلمان... لتسقط بطريقة ديموقراطية وشفافة كالتي رأيناها، وذلك بعدما اعتدنا أن يكون الرئيس هو من ينهي مهمات الحكومة، أو أن تسقط في ظروف أكثر دراماتيكية".

عبء النداء"

عملياً، تعيش تونس حالياً مرحلة مخاض اختيار رئيس مقبل للحكومة، وبرغم تداول عدد من الأسماء فإن من الصعب ترجيح كفة أي اسم مطروح، وخصوصاً أنّ الأمر مطروح للتوافقات، "وبالتالي قد يظهر اسم جديد فجأة في الأيام المقبلة"، كما يشرح أحد المتابعين عن قرب للحياة السياسية التونسية.
لكن من جهة أخرى، ربما أصبح الوقت مناسباً لكي يقيّم التونسيون أداء "نداء تونس" في السلطة بعد نحو عامين على منحهم إياه ثقة وازنة لإدارة الدولة، وبعدما فضلوه على "حركة النهضة" في انتخابات تشريعية سادها استقطاب حاد تمظهر على شكل الاختيار بين "العلمانيين والإسلاميين".
في حديث إلى "الأخبار"، يعتبر أستاذ العلوم السياسية التونسي، حمزة المؤدب، أنّ "عدم تجديد الثقة بالحكومة من طرف التحالف الرباعي، وتحميل (الحبيب الصيد مسؤولية) فشل حكومته في تحقيق التنمية وانحدار العملة الوطنية ومحاربة الفساد (في ظل) هروب الأحزاب الحاكمة من المسؤولية، هو دليل على الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد"، مضيفاً أنّ هذه الأزمة "تعكس حالة المشهد الحزبي المتردي اليوم في تونس والمشكّل أساساً من أحزاب لا تحتكم إلى مشاريع ولا إلى برامج أو أفكار، وبالتالي تسقط في الانتهازية والمناورة والحسابات الآنية".
وفي إجابته عن سؤال "الأخبار"، فإنّ المؤدب يشرح أنّ "الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية الأخيرة، أي نداء تونس، صدّر أزماته للحكومة، وصار مصدر عدم استقرار وعرقلة للعمل الحكومي... وكان للصراعات في داخله تداعيات كبرى على الحكومة... وحرمتها من دعم سياسي وبوصلة سياسية". علاوة على ذلك، يشير أستاذ العلوم السياسية التونسي إلى واقع "تحوّل الحزب (النداء) إلى واجهة لتسلط لوبيات المال النافذة، ولأطماع ابن وعائلة رئيس الجمهورية، فجيّره لمصلحتها، ما عمَّق الأزمة عن طريق خلق سلطة موازية فعلية في مقابل أطراف حاكمة لا تملك من أمرها شيئاً، بل مطلوب منها أن تتحول الى واجهات لا أكثر".
وبينما يلفت المؤدب إلى أنّ "التونسيين اكتشفوا خلال جلسة البرلمان أن ديموقراطيتهم صورية، وهو ما ينبئ بتحويل الأزمة السياسية إلى أزمة شرعية في الأسابيع والأشهر المقبلة، وخصوصاً في ظل العجز عن تحقيق إنجازات اقتصادية والحد من تدني ظروف عيش التونسيين"، فإنه يقول إنّ "نداء تونس صار عملياً عبئاً على من يحكم وعلى من يتحالف معه ليحكم، وذلك لأنه ببساطة حزب (يعاني عطلاً) بعد تفجر صراع اللوبيات والطموحات داخله، والواقع أن السباق لوراثته بدأ منذ خروج أمينه العام السابق، محسن مرزوق، منه وتأسيسه حركة مشروع تونس التي يريد أن يبنيها عن طريق استعادة واسترجاع الاستقطاب العلماني ــ الإسلامي، فيما تقديري أن هذا المسار لن يساهم في خلق مشهد حزبي متوازن وقادر على دفع العملية الديموقراطية، وخصوصاً أن التجربة أثبتت أنه لا مكان لمشروع يقام على العداء أو الإقصاء لمشروع آخر".
في سياق الإجابة، يعتبر حمزة المؤدب أنّ "المشهد الحزبي يجب أن تشكلّه (حالياً) أحزاب تطرح نفسها كبدائل وكمؤسسات لتأطير وتمثيل المصالح المختلفة والمتناقضة في إطار من التسويات السياسية التي لا بديل عنها سوى الصراع المفتوح والاحتراب الداخلي"، وذلك في ظل "دخول فئات من الشعب التونسي في حالة من الإحباط"، كما يشير الباحث في علم الاجتماع، فؤاد غربالي، وهو الواقع الذي يفتح الباب فعلياً على أسئلة جدية بخصوص "العهد الثاني" للرئيس السبسي، والذي يبدأ بانطلاق مفاوضات الحكومة الثانية.