ليس في الرقم مبالغة. عشرة مستشفيات. نعم، عشرة مستشفيات رفضت استقبال رضيع لأنه «مضمون» على اسم والده الذي لا يملك بوليصة تأمين خاص فوق ضمانه الاجتماعي. محمد بركات، ابن الثلاثين يوماً، كاد يموت بسبب جشع المستشفيات، وليس بسبب ارتفاع الحرارة. هذا الجشع الذي لوّث دمه بـ"التهابات قاتلة"، وليست الحرارة التي وصلت إلى حدود 39 درجة بعلم كل أطباء الطوارئ في كل المستشفيات التي التجأ إليها والده، بلا جدوى.
منذ الساعة الثامنة من ليل الأحد الماضي وحتى الساعة الرابعة من فجر الاثنين، علق محمد بين الحياة والموت على أبواب المستشفيات التي رفضت استقباله بحجة عدم وجود أسرّة فارغة. يعدّدها والده واحداً تلو الآخر: السان تيريز. الروم. السان جورج. الجامعة الأميركية. أوتيل ديو دو فرانس. كليمنصو. السان شارل. يتوقف هنيهة ليتذكر البقية، ولكن الذاكرة في ليلٍ موجع كالذي مرّ تضعف.

ما حصل مع هذا الطفل هو استكمال لما حصل مع من هم قبله
ثماني ساعاتٍ، قضاها الوالد بهاء متنقلاً ما بين المستشفيات، غير أنه كان يلقى الجواب نفسه «ما عنا تخت فاضي». وفي المرات القليلة التي يجد فيها سريراً لطفله، كان يأتيه السؤال «إنت شو؟»، وعندما يأتيهم الجواب «مضمون»، يتبخر السرير. يعيد بهاء سرد الليلة تلك منطلقاً من مستشفى السان تيريز الذي عاين طفله ولم يستقبله، واعداً إياه بالحديث مع مستشفيات أخرى، ولكن من دون جدوى. من هناك إلى السان جورج التي «قالت إنها لا تستقبل أطفالاً بهذا العمر»، بعدها «تحدثت مع إدارة الجامعة الأميركية، التي لم تستقبله بعدما عرفت بأنه مضمون»، إلى الاتصال بمستشفى أوتيل ديو بلا جدوى، إلى مستشفى كليمنصو «تواصلنا معهم بعدما علمنا بأن لديهم سريراً، ولكن عندما عرفوا بأن ابني مضمون لم يستقبلوه»، لأنه لا أسرّة لمرضى الضمان «شو ما تكون حالته». من هناك إلى الروم، والحكاية نفسها ترافق بهاء: لا أسرّة. وأكثر من ذلك «ولو كان رئيس الجمهورية ما بيفوت ضمان لعنا»، هكذا، قالوا له في السان تيريز، ليعودوا عن هذا القول بـ «500 دولار بتدفعا بنزبطلك تخت». هكذا، صارت «الدولارات» تفكّ أزمة السرير المفقود وتنعش الأمل بحفظ حياة رضيع. أما الحق بالصحة والطبابة التي يكفلها القانون، فلا وجود له في دولة المؤسسات التي تتفرج على جشع المستشفيات، ولا تتحرك. لا تتحرك إلا لتجري تحقيقاً، سرعان ما يُقفل بعدما تنتهي مفاعيل الحزن. وهنا، يستوجب السؤال عما حصل في التحقيقات التي تسلّمتها وزارة الصحة عقب مقتل الطفل مؤمن المحمد؟ وإنعام ربيع؟ وعبد الرؤوف الخولي؟ وغيرهم من الرضع الذين ماتوا على أعتاب المستشفيات، على الرغم من أنهم «مضمونون». فبالنسبة إلى المستشفيات، أن تكون مسجلاً في الضمان، يعني أن تموت. ولكن، هذه ليست مشكلة المستشفيات في الدرجة الأولى، بل مشكلة الدولة وضمانها الذي لا يعوَّل عليه.
ثماني ساعات، قضاها محمد بهاء بركات ما بين الحياة والموت، ولم يجد سريره الذي من المفترض أن «تكفله» له دولته والقانون، إلا بعدما أتى «تلفون من فوق». من الطبقة التي فيها مكتب وزير الصحة. بـ«الواسطة»، بعبارة أوضح. ولولا هذا الاتصال لكان الطفل فارق الحياة.
ما حصل مع هذا الطفل هو استكمال لما حصل مع من هم قبله، وقد تقدم والده بشكوى إلى الضمان الاجتماعي الذي سارع إلى فتح تحقيق بالموضوع، وشكوى أخرى إلى وزارة الصحة، وقد وعد وزير الصحة غسان حاصباني بمتابعتها. مع ذلك، لن يكون محمد الذي توسل حقه ثماني ساعات عند أبواب المستشفيات هو الأخير الذي يُحرم من حقّه في العلاج، فثمة آخرون كثر يحرمون من هذا الحق بسبب النظام الصحي الفاشل الذي يرهن صحة المواطنين لجشع المستشفيات ومصالحها و«أخلاقياتها» الطبّية.