نشرت صحيفة "الأخبار" اللبنانية مقالاً للينا كوش، بعنوان غريب نوعاً ما، وهو "عيد يناير: هل يهدف إلى إفقاد الجزائر هويتها العربية؟". ولعلّ المرة الأولى التي تتحدث فيها هذه الصحف عن احتفالات يقيمها الجزائريون والمغاربيون منذ قرون، بمن فيهم سكان غرب مصر، ولم يقل أحد إنها "حرام" أو "وثنية" رغم اعتناق كل المغاربيين تقريباً الإسلام.
لكن عرف "يناير" حملات ضده في السنوات الأخيرة، تقودها عناصر من التيارات الأيديولوجية العروبية والإسلامية وصلت إلى درجة السخرية منه بشكل مستزف للكثير جداً من الجزائريين. والمفارقة هي احتفال الكثير من أصحاب هذه الحملات بـ"يناير" في الماضي؛ فماذا وقع لهؤلاء اليوم؟ وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: هل هناك لعبة مدبرة لإثارة الكراهية بين الجزائريين في إطار مخطط يستهدف تفكيك الجزائر على أساس"أوهام عرقية" وزرع الفوضى، ما يمهد الساحة لإعادة انتشار الجماعات الإرهابية، وخاصة "داعش" (في الوقت الذي تُطرد فيه) من كل من سوريا والعراق وليبيا؟
تحتاج الإجابة عن ذلك إلى بحث أعمق، وقد جاءت هذه المقالة ومقالات أخرى متشابهة في الطرح، وعادة ما يكتبها العروبيون والإسلاميون، فيسكبون الزيت على النار أكثر، ويحذرون من تهديد وهمي للهوية العربية في الجزائر، لكن لم يشيروا إطلاقاً إلى ما تعرض ويتعرض له بعد آخر أساسي للهوية الجزائرية، وهو الأمازيغية من طمس وتشويه منذ عقود.
ما يؤسف له أن بعض الإخوة في المشرق العربي يجهلون الكثير عن الجزائر، فيسمعون فقط صوت بعض المثقفين العروبيين والإسلاميين الذين ينقلون لهم الكثير من المعلومات الخاطئة والمغالطات في إطار صراعهم الأيديولوجي مع المدافعين عن "الجزائر الجزائرية" بكل مكوناتها الإسلامية والعربية والأمازيغية، وهو ما يلاحظ بجلاء في ما نقلته كاتبة المقال واعتبارها أن "عيد يناير" أداة لضرب الهوية العربية للجزائر، بالرغم من أن الجزائريين يحتفلون بهذا العيد منذ حوالى ثلاثة آلاف سنة، وبكل عفوية، ولم يأت أي كان للتشكيك في ذلك، ولم يصدر أي رجل دين منذ دخول أجدادنا الإسلام بأن تلك الاحتفالات حرام. ويبدو أن صاحبة المقال تأثرت بهؤلاء المثقفين الذين يتحسسون من كل ما يرون فيه أنه ذو بعد أمازيغي، ولا يريدون أن يقتنعوا بأن "يناير" أو غيره من مظاهر ومعالم الثقافة الأمازيغية في الجزائر هو مجرد تعبير عن بعد من الأبعاد الرئيسية للهوية الجزائرية التي تتشكل واقعياً ودستورياً من أبعاد ثلاثة نسميها في كتاباتنا المثلث الذهبي المتشكل من الإسلام والعربية والأمازيغية، وأن أي إبعاد لواحد منها هو سقوط لهذه الأمة الجزائرية، وهو ما يؤدي حتماً إلى عدم الاستقرار. وقد تداركت الدولة الجزائرية أخطاءها في السنوات الأخيرة، وعملت من أجل إنهاء المظالم والإجحاف الذي لحق بالبعد الأمازيغي في الجزائر.
فهل تدرك صاحبة المقال أن كل دولنا مهددة اليوم بالتفكك، فإذا كان المشرق العربي قد تم تفكيكه بتوظيف الطائفية، فإنّ "الأوهام العرقية" هي المدخل الذي يستخدمه أعداؤنا لتفكيك بلداننا المغاربية، ومنها الجزائر، وساهم البعض من المثقفين والسياسيين بوعي أو دون وعي بنشر هذه الأوهام وتمييز الجزائريين بين عرقين وهميين "عربي" و"أمازيغي"، والتي ما هي في الحقيقة إلا أوهام، فما هو موجود عندنا هم "جزائريون ناطقون بالعربية" و"جزائريون ناطقون بالأمازيغية". هي مسألة لسان، لا مسألة عرق.
لعل بعض إخواننا المشارقة لا يعلمون بأنه في الكثير من الأحيان نجد أبناء عم من جد واحد، أحدهم يتحدث بالعربية الجزائرية والآخر بالأمازيغية، فأحدهما يعتبر نفسه "عربياً" والآخر "أمازيغياً" بالرغم من أنهما أبناء عم، وحتى اللسان لا يفرق أكثر، ما دام الجميع يعرفون العربية اليوم بحكم تعميم التعليم، بل حتى عند عامة الناس البسطاء لا نشعر بوجود أزمة هوياتية، ويتعايش الجميع في سلام ووئام، لكنّ "السياسويين" هم الذين يثيرون هذه المشاكل، ومعهم مثقفون، وخاصة العروبيون والإسلاميون الذين لا شغل لهم إلا طرح المسائل الهوياتية بشكل استفزازي وإقصائي ضد البعد الأمازيغي.
يطرح دعاة "الجزائر الجزائرية" حلاً نهائياً لهذا المشكل لإنقاذ الجزائر من أي تفكك، فهم يقولون إننا "كلنا جزائريون" من دون إضافة أي صفة عرقية أو دينية للجزائري، ويستندون في ذلك إلى قيم الديموقراطية، وخاصة "مبدأ المواطنة" الذي هضموه جيداً على عكس التيارات العروبية والإسلامية. ولهذا تجد أنّ أصحاب هذا الطرح هم من التيارات الديموقراطية وفي مواجهة التيارات العروبية والإسلامية التي تريد فرض رؤيتها على الجميع، ما يثير ردود فعل طبيعية وحروباً هوياتية.
لكن يبدو أن صاحبة المقالة مثلها مثل الكثير من العروبيين والإسلاميين حريصة على إقصاء البعد الأمازيغي في هذه الهوية الجزائرية وطمسه والقضاء عليه، وهو ما يشعل حروباً هوياتية نحن في غنى عنها. فالهوية الجزائرية في الحقيقة هي هوية مركبة ومشكلة من عدة أبعاد، لكن للأسف لم ترتق صاحبة المقالة ــ حسب ما يبدو ــ إلى أفكار ومبادئ المواطنة مثل "أصحابها" العروبيين والإسلاميين الذين يزوّدونها بمعلومات مغلوطة حول واقع الجزائر. فبأي حق نفرض هوية عربية على جزائريين يعتبرون أنفسهم ليسوا "عرباً"؟، كما أيضاً، بأي حق نفرض هوية أمازيغية على جزائريين يعتبرون أنفسهم ليسوا "أمازيغا"؟. ولحل المشكلة نهائياً، فلنكتف بالقول "إننا جزائريون فقط" من دون أي إضافات أخرى، وتبقى مسائل الأصول والانتماء وغيرها مسائل شخصية وذاتية، مثلها في ذلك مثل المسائل الدينية.
هذا هو ما يطرحه أنصار "الجزائر الجزائرية"، أي كلنا جزائريون بغض النظر عن أصولنا أو معتقداتنا، لكن للأسف يرفض العروبيون وحلفاؤهم الإسلاميون ذلك، فهم كانوا ينفون منذ 1962 حتى 1988 أي وجود لـ"الأمازيغية" كثقافة ولسان وتاريخ وحضارة، بالرغم من أنها منتشرة بقوة في كل ربوع الجزائر. فبدل التعامل مع الواقع كما هو، عملوا بكل الوسائل على تغيير هذا الواقع بالقضاء على البعد الأمازيغي، ما أدى إلى ردود فعل خطيرة، فقد كان ذكر كلمة "الأمازيغية" ذاتها هو طابو وممنوع في الجزائر قبل 1988، كما طُمس تاريخ الجزائر ما قبل الإسلام بشكل كبير في المدارس، فالأمازيغية مطموسة ومقموعة في الجزائر منذ أن استولى بن بلة المدعوم من عبد الناصر على السلطة في 1962. ويتحمل هذا الأخير مسؤولية كبيرة لما وصلت إليه مسألة الهوية في جزائر اليوم، فمنذ الثورة التي شارك فيها الكثير جداً جداً من الناطقين بالأمازيغية، وعبد الناصر يخطط كي يمنع وصول ما يعتقد أنهم "بربر" أي "أمازيغ" إلى السلطة في الجزائر، ما أدى إلى ردود فعل طبيعية عند أناس شعروا بالغبن، وبأنهم مظلومون ثقافياً برغم تضحياتهم الكبيرة جداً من أجل تحرير الجزائر. فهل طرد هؤلاء الاستعمار الفرنسي كي يقعوا تحت سلطة أخرى تمنع عليهم التعبير عن ثقافتهم الأمازيغية؟
وأؤكد على (مصطلح) "ثقافياً"، لأنه لم يتم إقصاؤهم سياسياً ولا اقتصادياً. وفي خضم ذلك، فإن الكاتبة تعرف جيداً سياسة التتريك في المشرق العربي وما أنجر عنها، لكن العروبيين للأسف الشديد يكررون الشيء نفسه في كل بلاد المنطقة، ما أدى إلى تفكيك العراق والسودان والباقي آتٍ بسبب تلك السياسات الإقصائية. ولحسن الحظ أن الدولة الجزائرية تداركت ذلك في السنوات الأخيرة، فأرادت تصحيح الوضع حفاظاً على الجزائر الواحدة الموحدة، لكن وجدت في وجهها ضغوط لوبيات عروبية وإسلامية مدعومة من قوى مشرقية، وتتحكم بقوة في قطاعات التعليم والإعلام والثقافة والمساجد التي سيطرت عليها في السنوات الأولى للاستقلال. ولا نعفي أيضاً بعض عناصر النظام من تلاعبهم في بعض الأحيان بمسائل الهوية لخدمة مصالحهم في إطار سياسة "فرّق تسد".
وغرابة الأمر، أنه كما ضغط القوميون العرب في المشرق ممثلين بعبد الرحمن عزام على مصالي الحاج في 1949 لإقصاء البعد الأمازيغي كشرط لدعم الجامعة العربية للقضية الجزائرية، فإنه يبدو لنا أنهم لا يزالون إلى حد اليوم يمارسون ضغطاً لإقصاء هذا البعد الذي هو بعد جزائري أصيل، وخاصة أن الكثير من الجزائريين لم يتخلصوا بعد من الأكاذيب التي روّجت طوال عقود ضد هذا البعد من التيارات الأيديولوجية العروبية وبعض الإسلاميين. ولا نستبعد أن تكون مقالة (الأستاذة) لينا كنوش وغيرها من المقالات، تدخل في هذا الإطار، ولهذا أقول لإخواننا في المشرق العربي: من فضلكم لا تصبوا الزيت على النار أكثر، فاتركوا الجزائر لشأنها، فكما نشكركم على دعمكم لنا من أجل التحرر من الاستعمار، إلا أننا نحمّل العروبيين والإسلاميين المشارقة بعض المسؤولية لما يحدث في جزائرنا اليوم على صعيد الهوية، ومن تهديد لوحدتها.
*أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة وهران