يحاول جورج فريدمان (مؤسّس شركة "ستراتفور") أن يتخيّل حرباً بين أميركا والصّين في مقالين، يوصّف كلٌّ منهما سيناريو مختلفاً. في الأوّل، تحاول الصّين أن تغزو تايوان في ضربةٍ خاطفة، وفي الثاني تضرب أميركا حصاراً بحرياً على الصين على طول ارخبيل الجزر الذي يحيط بسواحلها الجنوبية والشرقية. في الحالتين، يستخلص فريدمان، لن يتمكّن المهاجم من تحقيق هدفه بسهولة.
حتّى تتمكّن الصين، مثلاً، من غزو تايوان، وتحقيق سيطرةٍ جوية وبحرية في المضيق تسمح بدفق انزالٍ مستمرّ لقوّاتها، سيكون عليها تنفيذ كلّ المهام التالية، بنجاح، في آنٍ واحد: ضرب مجموعتي حاملات الطائرات الأميركية التي تتواجد عادةً في شرق آسيا لاخراج الأسطول الأميركي ــــ مؤقتاً ــــ من غرب الباسيفيك، ضرب كلّ المطارات والدفاعات البحرية في جزيرة تايوان لتمكين الإنزال، تدمير قاعدتي غوام ودييغو غارسيا حيث القاذفات الاستراتيجية ومراكز الدعم والإمداد، إضافةً الى محاولة تخريب الأقمار الصناعية الأميركية والتشويش على اتصالاتها. هذا على افتراض أنّ القواعد الأميركية في الدول الحليفة القريبة (كاليابان وكوريا واستراليا وغيرها) لن تدخل الحرب، وسترفض الدول المضيفة أن تتورّط في مواجهة عسكرية مع الصين. وحتّى لو حقّق الجيش الصيني كلّ هذه الأهداف، يضيف فريدمان، فإنّ القيادة الأميركية سترسل عدداً هائلاً من الغواصات الى جانبي المضيق، لتتصيّد السفن الصينية وتخرّب الإنزال.
من جهةٍ أخرى، فإنّ أيّ محاولة أميركية لإغلاق الأرخبيل الاستراتيجي، وحراسة "الثغرات" الملاحيّة فيه بسفنها الحربية، لن يكون هيّناً على الإطلاق (على الفم الشمالي لسلسلة الجزر هذه، بين كوريا واليابان، كَمَن الأسطول الياباني لعدوّه الروسي عام 1905، بعد أن كان قد قطع نصف العالم، ودار حول اوروبا وافريقيا محاولاً الوصول الى فلاديفوستوك، لينتظره اليابانيون في أحد المضائق الإجبارية هناك ويدمّروه بالكامل). إن شاءت اميركا أن تحاصر الصين اليوم، وأجبرت الأسطول الصيني على البقاء في مرافئه، فهي ستضع حاملاتها في مرمى الصواريخ المضادة للسفن التي يطوّرها ويكدّسها الصينيون وتُطلق من قواعد بريّة (أو من "الجزر الاصطناعية" التي تبنيها بيجينغ في المياه المتنازع عليها). من هنا، ستضطرّ اميركا الى إعماء أو تدمير الأقمار الصناعية الصينية، حتى لا تتمكن من معرفة مواقع الحاملات الأميركية وتوجيه الصواريخ اليها. حتى ولو تحقّق ذلك، يحكم فريدمان، قد تتمكن بيجينغ من رصد الأهداف عبر الطائرات المسيّرة ووسائط أخرى، ما يعني أن الجيش الأميركي ــــ حتى يحقق مهمته ــــ سيكون مجبراً على شنّ حربٍ جويّة شاملة فوق البرّ الصيني، وتدمير كامل القوة الصاروخية التي تستهدف أسطوله. حتّى ولو تحقّق ذلك، وهو شبه مستحيل، ستظلّ الغواصات الصينية خطراً لا يمكن توقّيه بالكامل، خاصّة أنّ الأسطول الأميركي سيحرس ويجول مواقع ومضائق معروفة (أي الوضعية المثالية للكمائن).

أرمادا جديدة

للحقّ، فإنّ الصّين، خلال العقدين الماضيين، قد تطوّرت في المجال البحري بوتيرةٍ مثيرةٍ للدهشة. في أواسط التسعينيات، كانت الصين ما تزال "تطمح" الى شراء مدمّرات سوفياتية قديمة؛ وخلال جيلٍ ونصف فحسب أصبحت تنتج ــــ محليّاً ــــ مدمّرة "تايب-52 دي"، وهي تشبه نسخةً أصغر بقليل من مدمّرات "ايجيس" الأميركية المتقدّمة ولا تقلّ عنها بشيء، من راداراتها الى ذخائرها الى تصميمها (بل تتفوق عليها في بعض النواحي، فالمدمرة الصينية تحوي رادارين حديثين بموجتين مغايرتين، ما يسمح لها بأداء مهام مختلفة بشكلٍ متزامن، الحماية ضد الصواريخ البالستية ــــ مثلاً ــــ وضدّ الأهداف القريبة في الآن نفسه، فيما المدمّرات الأميركية مجبرةٌ على الاختيار بين أحد النمطين، اذ أن البنتاغون قد قرّر الاكتفاء برادارٍ واحدٍ على مدمّراته خفضاً للتكلفة). حتّى في التّفاصيل الصغيرة، أصرّ الصينيون على الاتقان في البحر. كمثال، الصواريخ على المدمّرات الحديثة (سواء الذخائر التي تستخدم للدفاع الجوي أو لضرب الأهداف الأرضية) تخزّن في "خلايا" أو صوامع عموديّة داخل بدن السفينة، ولذلك انت لا ترى لها أثراً في الصور. وهذه الخلايا تقذف الصّواريخ الى أعلى بقوّة الغاز المضغوط قبل أن تشعل محرّكها. الأميركيون توصّلوا الى بناء صوامع موحّدة الحجم، بمعنى أنّها قد تعبّأ بأي نوعٍ أو حجمٍ من الصواريخ (بمعنى أن الصومعة ذاتها قد تحمل صاروخاً كبيراً مضاداً للصواريخ، أو صاروخ كروز، أو صاروخاً صغيراً للدفاع الجوي، الخ)، ما يمكّن كلّ مدمّرةٍ، في ايّ وقت، من اختيار مزيج الذخائر الذي يناسب مهمتها وظرفها. الصّينيّون، خلال أقلّ من سنتين، تمكنوا من تطوير المعيار ذاته واعتمدوه على سفنهم الجديدة.
المشكلة (أو الميزة) في التقدّم الصيني هي ليست في النّوعيّة فحسب، بل في الكمّ ايضاً. ما أن يصل الصينيون الى اتقان تصميمٍ ما، حتّى يبدأوا بانتاجه بكميّاتٍ لا تصدّق، وخلال فترة زمنية وجيزة. عام 2012، كتب الخبير الأميركي روبرت روس محاولاً طمأنة المؤسسة الأميركية، والتقليل من التهديد العسكري الذي تمثّله الصين. نبّه روس الى أنّ المدمّرة الصينية "المستقبلية" (في اشارة الى "تايب ــــ 54 دي) دشّن بالكاد نموذجها الأوّل، فيما اميركا تملك ما يقارب المئة قطعة من هذه الفئة. اليوم، بعد أربع سنوات، أصبحت هناك 14 مدمّرة صينية من هذا الطراز (بعضها في الخدمة وبعضها يخضع للتجهيز في البحر وبعضها الآخر في أحواض البناء) والعدد سيرتفع قريباً الى ما فوق العشرين. أكثر من ذلك، خرج الصينيون بتصميمٍ جديد، هو "التايب ــــ 55"، سيكون أكبر وأثقل من المدمّرات الأميركيّة، وسيحمل ما يقارب 130 صومعة لإطلاق الصواريخ المختلفة، وسيجهّز ــــ بحسب المصادر الصينية ــــ بأجيالٍ جديدة من الذخائر في مختلف الفئات. في تقريرٍ حكومي أميركي عن القدرات البحرية الصينية، يحذّر المحرّرون من أنّ المدمّرات الصينية الكبيرة، وإن كانت لا تزال أقلّ عدداً بكثير من نظيراتها في الأسطول الأميركي، الّا أنها تُرفد بعشرات الفرقاطات والكورفيتات الحديثة، هي ليست بقدرة المدمّرات (التي تشبه قاعدة دفاع جوي، ومنصّة حربٍ ضد السفن، وبارجة تقصف عمق العدو، وصائدة للغوّاصات في آن) ولكنّها سريعة ورشيقة ومجهّزة بصواريخ شديدة الفعالية ضدّ السّفن، وهي قادرة على العمل قرب السواحل الصينية ووضع الأسطول الأميركي في مرماها إن اقترب. خلال عقدين، تحوّل الأسطول الصيني من تشكيلةٍ مكونة من سفنٍ سوفياتية قديمة وصينية متخلّفة، الى قوّةٍ بحريّة تعدّ أكثر من 70% من قطعها "حديثة"، بالمقاييس الغربية، كلّها انتاجٌ محلّيّ، والنسبة تزداد باضطراد. المسألة، اذاً، ليست في مكان الصين حالياً، نسبةً الى القوة الأميركية، بل اين ستصبح بعد خمس سنوات من اليوم.

الغواصة والطوربيد

في تقريرٍ للأدميرالية البريطانية من بداية القرن العشرين، تمّ تحديد الغواصة والطوربيد على أنّهما التطوّران الأكثر "خلخلة" للمفاهيم العسكرية التقليدية. في الحقيقة، فإنّ السعي الى زيادة مدى المدفعية البحرية في أوائل القرن، وايجاد الوسائل للتصويب البعيد في البحر، كان أساساً بسبب تطوير الطوربيد؛ لأنّك إن سمحت لزورق طوربيدٍ صغيرٍ (زنته مئتا طن) بالاقتراب منك دون الأربعة آلاف متر، فأنت ميّتٌ، ولو كنت بارجة وزنها عشرة آلاف طنّ. في السيناريو الذي خطّه جورج فريدمان للحرب بين اميركا والصين، هناك تذكيرٌ بأنّ أكثر الأسلحة التي تمّ ذكرها (من الصواريخ الصينية البالستية المضادة للحاملات، الى الدفاعات الأميركية التي يُفترض أن تسقطها، وصولاً الى حرب الفضاء ضد الأقمار الصناعية) كلّها تقنيات لن نعرف إن كانت تعمل حتى يتمّ تجريبها ومواجهتها ببعض، وهذا لم يحصل بعد. من جهةٍ أخرى، فإنّ "الثغرة" المؤكّدة في كلّ الحالات، بالنسبة الى فريدمان، هي الغواصات (أميركية وصينية) التي لن يتمكّن أحدٌ، مهما هيمن على البحر والسماء، من الغاء خطرها.
يكفي أن تنسلّ غوّاصة واحدة وسط مجموعةٍ لحاملات الطائرات، من دون أن تُكشف، حتّى ترتكب بها مجزرةً شنيعة خلال دقائق قليلة. والغوّاصات الهجومية الحديثة مصممة لهذا الهدف تحديداً. قد لا تتمكن طائرة معادية أو سفينة سطح من الاقتراب من أسطولٍ أميركي وهو في حالة انذارٍ وانتباه، ولكن العديد من الغوّاصات قد نجحت بالفعل في مفاجأة حاملات أميركية والتسلل قربها. فعلت ذلك غواصات فرنسية وسويدية في تمارين حربيّة، بل وهناك حادثةٌ شهيرة طفت خلالها غوّاصة صينية، فجأةً، قرب الحاملة الأميركية "كيتي هوك" بعد أن لاحقتها لمدّةٍ متجنّبة كل مجسّاتها المتقدّمة. علينا أن ننسى، هنا، غواصات الحرب العالمية الثانية فهي، رغم فعاليتها، كانت فعليا سفن سطحٍ تغوص لمددٍ قصيرة (غالباً خلال تنفيذ الهجوم)، والى عمقٍ بسيط، بحيث تمكن مشاهدتها بالعين المجرّدة وهي تحت الماء (وقد قام الحلفاء، في آخر الأمر، بكشف الغواصات الألمانية واصطيادها عبر طائرات الدورية).
الغواصات الهجومية اليوم هي كائنٌ مختلفٌ كلياً: تغوص لأعماقٍ كبيرة، هي أسرع ــــ وهي غاطسة ــــ من أغلب السفن، صامتةٌ وخفيةٌ الى حدٍّ مذهل، ومسلّحة بترسانات رهيبة. من الواجب هنا أن نُعطي اشارة بسيطة عن قدرة الطوربيد التدميرية. هو، على عكس الصواريخ والغارات، يسير تحت الماء، فمن الصعب جداً اكتشافه وقد يتم ضرب السفينة قبل أن تعرف أنها مستهدفة؛ ولو عرفت، فإن اعتراضه أو تضليله عسيرٌ وهو، في نماذجه الحديثة، أقدر على المناورة من أي سفينة حربية، فأين المفرّ؟ الطوربيد، علاوةً على ذلك، يضرب السفينة في بدنها الأسفل، حيث التصفيح قليل، ومفعوله مدمّر بشكلٍ استثنائي. الطوربيد يولّد انفجاراً ضخماً تحت الماء بجانب السفينة، و"الفقاعة" الفراغية التي يولّدها الإنفجار هي ما يدمّر الهدف؛ فتغيّر الضّغط، كأثر القنابل الفراغية، يقصم الهيكل حتّى ينبعج وينشقّ عن ثغرةٍ كبيرة. ولو كانت السفينة\الهدف صغيرة نسبياً، فمن الممكن للطوربيد أن يكسرها نصفين (وهو ما حصل، منذ سنوات، مع الفرقاطة الكورية الجنوبية. سفينة حديثة متطوّرة، انشطرت وغرقت في دقائق، قبل أن تعرف ما جرى لها، بفعل طوربيدٍ أطلقته غواصة كورية شمالية بحجم باصٍ كبير).
من هنا لا أحد يقدر على التنبّؤ بنتيجة المواجهة البحرية القادمة، أو ما سيحصل حين يصطدم الأسطول الأميركي بعدوٍّ ذي حيلةٍ وقدرة ويحارب في ميدانه. الأميركيون يحكمون العالم عبر البحار، ولكن للفقراء ايضاً أسلحتهم، وهناك قوى صاعدة تحاول بناء مجال حيوي حولها واقتطاعه من السيطرة الأميركية. والسياسة والاقتصاد يقرّران، في كثيرٍ من الأحيان، قبل السلاح والتقانة (الصين، مثلاً، لن تضطر على الأرجح الى غزو تايوان لأنّ البلدين قد أصبحا، بالفعل، في شبه وحدةٍ اقتصادية، ولو استمرّت الأمور على هذا الحال لزمنٍ، قد تعود تايوان لوحدها، من دون حربٍ وصراع). عام 1914، حين دخلت بريطانيا الحرب الكونيّة وهي تزهو بأكبر أسطولٍ في العالم وأضخم البوارج وأحدثها، لم يكن أحدٌ يتخيّل يومها أن الامبراطورية العظيمة ستصبح، خلال عقودٍ قليلة، أثراً بعد عين.