النجدة! «الحكومة اللبنانيّة تريد منع فيلم «المرأة الخارقة» لمجرّد كون بطلته إسرائيليّة». هكذا عنون «البلوغر»، وهو طبيب لبناني شاب، مقالة استنكاريّة مطوّلة على مدوّنته. أين المشكلة في أن تكون بطلته إسرائيليّة، يا جماعة؟ ويمكننا أن نضيف هنا، على طريقة «زكريا» بطل زياد الرحباني في «نزل السرور»: «ليك ليك مَلا حِجّة!».
ولم يكن من صديقنا فيليب عرقتنجي إلا أن تأثّر بصرخة الاستغاثة، وأعاد نشر التدوينة على صفحته الفايسبوكيّة الخاصة، مع تعليق يعبّر عن احباطه واحتجاجه البارد: «ماذا يمكن للمرء أن يقول أمام حالة كهذه؟». للوهلة الأولى لا تفهم هذه الشطحة التي تورط فيها أيضاً بعض الفنانين والاعلاميين… هل فعلاً تلك قناعة هذا السينمائي اللبناني؟ هل يبدو له «سلوكاً قمعياً ومتخلفاً وربّما قروسطيّاً»، أن تمنع السلطات اللبنانيّة عملاً يرتبط في أحد عناصره الأساسيّة بكيان العدو؟ هل وصل بنا الكرم اللبناني، والحس الحضاري، والنزعة الانفتاحيّة الليبراليّة، إلى حدّ التنازل عن أبسط حقوقنا، بل قل أبسط واجباتنا، في تبيّن العدوّ، والتعامل معه بصفته قاتلاً ومحتلاً ومغتصباً، ومقاطعته الرمزيّة والفعليّة؟ في هذا «الربيع» الكاذب، البغيض، الذي بدلاً من أن يحمل لنا العدالة والتقدم والحرية، خلق مسوخاً، وزعزع الثوابت، وأضاع المعايير، ونسف المسلّمات، ومَذْهب الانتماء، وفتّت الهويّة، وأنجب شباباً مستلباً، بلا بوصلة، متروكاً في مهبّ الصرْعات الكول، والمنظمات غير الحكوميّة… هل نخطو اليوم في لبنان، على غير علمنا، خطوة أخرى نحو المنحدر القاتل؟
في اعتقادنا أن صاحب «تحت القصف» (2007)، لم يقصد غالباً كل ذلك! هو الذي صوّر الفيلم المذكور مع ندى أبو فرحات وجورج خبّاز، خلال عدوان تمّوز 2006، فاضحاً وحشيّة العدو الاسرائيلي. ما السبب إذاً؟ لعلّه فخ الطوباويّة والسذاجة السياسيّة، يجعلنا في غمرة دفاعنا عن الانفتاح والحريّة، ورفض المنع والرقابة، ننزلق إلى الخلط بين عمل ابداعي محاصر لجرأته الفكريّة أو الجماليّة، وعمل يؤنسن بشكل أو بآخر العدو، ويروّج لرموزه، ويسوّق لخطابه. إن فيلم «المرأة الخارقة»، وهو انتاج هوليودي من النوع الذي يحتل شاشاتنا ووعينا بسمومه، من بطولة الممثلة الاسرائيليّة غال غادوت. صحيح أن فيلمها السابق «باتمان ضدّ سوبرمان» تَسلل إلى شاشاتنا قبل أشهر، لكن هل الخطأ يبرر خطأً آخر؟ غادوت، ملكة جمال الكيان الصهيوني في العام 2004، تجسّد صورة إسرائيل (المزيّفة) بشكل صارخ: أليست في الفيلم «خارقة» مثل الفكرة الرائجة عن الكيان الصهيوني، العسكري الاسبارطي؟ والبطلة غادوت تتبجّح بسنتي الخدمة اللتين أمضتهما في جيش العدو كمجنّدة، ولعلّها جاءت إلى البوابة اللبنانية في 2006، لعلّها قتلت لبنانيين وفلسطينيين. بل إنّها رفعت الصلوات في العام 2014 كي يحفظ الله «جنود جيش الدفاع البواسل» حين كانوا يقتلون أهل غزّة، «الإرهابيين والهمج» طبعاً!
عزيزي فيليب، جان مولان لن يعانق كلاوس باربي، إذا سمحت لي أن أحيلك إلى مرجعنا الفرنسي المشترك. الأوّل مقاوم، والثاني جلاد نازي. السذاجة ممنوعة في السياسة. هل أنت مقتنع حقّاً أن علينا أن نستقبل فيلم «الأمازونة» الصهيونيّة في الأحضان (لقيمته الفكرية والفنية مثلاً؟)، ونحملها على الراحات؟ هل بات الخيار الوطني تكفيراً وعداء للحريّة ــ أي «حريّة» بربّك؟! ـــ فيما تتراجع فلسطين في الوعي الجماعي الى الهامش الفولكلوري، ونحذفها من المناهج والأولويّات السياسيّة، ونشطب معها الصراع مع العدو الصهيوني فنسلّمه رقابنا وعقولنا وحقوقنا؟ أليس الخطأ بالأحرى أن يكون الفيلم قد حاز كل الاذونات في لبنان، وكاد يصل الى الصالات في بيروت والمناطق، من دون أن يفطن لخطورته أحد؟ أين كل الأبطال الذين يشهرون مقصاتهم طوال العام، في خدمة هذا الشيخ أو ذاك الأبونا، ويتطاولون على الأفلام بالقصّ أو المنع، لأسباب رجعيّة وبتبريرات بليدة غالباً؟ صحيح أن المقاطعة، في هذه الحالات، تبقى رمزيّة، فلا أحد يستطيع أن يمنع وصول الأعمال إلى الناس في زمننا (لحسن الحظ في نهاية الأمر!). لكنّها مقاطعة تجاريّة، وأخلاقيّْة، ووطنيّة. مقاطعة مبدئيّة! فالتنازل عن هذا الواجب، هو فتح الباب أمام وحش التطبيع، ودعوة للخطاب الصهيوني كي يأتي ويستعمر وعينا، ويجرّدنا من ذواتنا، بحيث يأتي يوم قريب يصبح فيه الداعية النصّاب أفيخاي أدرعي، أيقونة العروبة والاسلام.
هل سيعرض الفيلم على الشاشات اللبنانيّة، فيكون وصمة عار على دولتنا ومؤسساتنا وسياسيينا؟ لحظة كتابة هذه السطور، ما زالت كل الاحتمالات واردة. تقتضي الأمانة أن نحيّي وزير الاقتصاد اللبناني رائد خوري الذي تجاوب بسرعة مع الرسالة التي وجّهتها «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان» إلى «مكتب مقاطعة إسرائيل» في وزارته، للمطالبة بمنع Wonder Woman . لقد كان متنبهاً الى هذه الممثلة منذ فيلمها السابق، وقد أعد كتاباً لـ «المديريّة العامة للأمن العام» لاتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع الفيلم. وأحال في كتابه المذكور، إلى مذكّرة صادرة عن «الأمانة العامة للجامعة العربيّة» بتاريخ 21/ 4/ 2016، «تتعلق بمنع عرض الأعمال الفنية التي تشارك فيها الممثلة الاسرائيلية غال غالوت». لكننا لمسنا غموضاً مريباً عندما اقتربنا من هذا السياج الوطني الغالي على قلوب اللبنانيين. فجأة بات كل من تحدّثنا معه من المسؤولين، يتهرب، أو يلجأ إلى مناورات إجرائيّة لا تنطلي على أحد. فتارة نسمع: «لسنا نحن من يمنع، نحن فقط نلفت نظر وزير الداخلية حين يكون هناك إخلال بالقانون… فكيف ننفذ طلب وزير الاقتصاد؟»، وتارة أخرى، يتم الاختباء خلف «لجنة الرقابة» الحديثة العهد نسبيّاً، وكلنا نعرف حدود صلاحياتها (تتألف من ممثلي عدد من الوزارات والاجهزة): «لقد شاهدت اللجنة مقدّمة الفيلم (ما معنى مقدّمة الفيلم؟) وقررت السماح بعرضه». يا سلام! هذه اللجنة اتخذت وحدها قراراً يتناقض مع قوانين المقاطعة، والمبادئ الوطنيّة؟
نحن نطالب عادة جهاز الأمن العام برفع سقف الحريّة إلى أقصى الحدود المتاحة، والتساهل في ممارسة هذه السلطة الرقابية المنوطة به، للأسف، بحكم قوانين تعود إلى الامبراطوريّة العثمانيّة والانتداب الفرنسي. أما إسرائيل، فما زالت حسب علمنا عدوّاً استراتيجيّاً شرساً، نخوض ضدّه حرباً مصيريّة ووجوديّة وكيانيّة. والتعاطي مع نتاجه يفترض وجود مسافة نقديّة، تربويّة، تتناسب مع هذا الاستثناء العظيم. كم أضحكنا المراسل الشاب المتحمّس الذي كان يبحث بالأمس سدىً، عمّن يدافع عن عرض الفيلم، عملاً بقاعدة «الرأي والرأي الآخر»! أيها السادة، إننا نتحدّث هنا عن قاتلنا. إسرائيل ليست وجهة نظر! إسرائيل قاتلنا. ورمز «المُحارِبة» الاسرائيليّة «الخارقة» ليس مكانه على شاشاتنا، بل في مرمى صواريخنا.