«نحن، ممثلي أوكرانيا السابقة، نعلن قيام دولة جديدة، ستخلف الدولة الأوكرانية، وقد اتفقنا على تسميتها مالوروسيا، باعتبار أن اسم أوكرانيا فقد مصداقيته، وستكون عاصمتها مدينة دانيتسك».
بهذه الخطوة المفاجئة، دفع متمردو جمهورية دانيتسك الشعبية، المعلنة من طرف واحد، المواجهة مع الدولة الأوكرانية إلى مرحلة متقدمة، من شأنها أن تفاقم الأزمة القائمة في الشرق الأوكراني، نحو مزيد من التصعيد، في ظل وضع إقليمي مضطرب، خصوصاً في ظل التوتر القائم في العلاقات بين روسيا والغرب، منذ الاستفتاء التاريخي، الذي أفضى إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي.
ومن غير الواضح، حتى الآن، ما إذا كانت الاندفاعة السياسية، التي خرجت من الشرق الأوكراني، مجرّد تسجيل موقف سياسي، عشية الجولة الجديدة من مفاوضات مينسك، الهادفة إلى إيجاد حل سياسي للحرب الدائرة منذ ثلاثة أعوام بين القوات الحكومية المدعومة من الغرب، والمتمردين الموالين لروسيا، أم أن الأمر أبعد من ذلك.

اتّسم ردّ الفعل الروسي
بالفتور الذي يعكس
عدم الرضى أو الحذر


ولعلّ ما صرّح به مسؤولو جمهورية دانيتسك الشعبية، المعلنة من طرف واحد، يشي بأن ثمة خريطة طريق محددة العناصر، لإيجاد أمر واقع جديد، يحاكي تجارب أخرى شهدتها مناطق متفرقة على امتداد أوراسيا، كما حصل في كوسوفو (بدعم «أطلسي»)، وأبخازيا الجنوبية (بدعم روسي).
حتى تسمية مالوروسيا نفسها ــ وهي تعني باللغة الروسية: روسيا الصغرى ــ لم تأتِ عبثاً، فهي تستحضر إرثاً تاريخياً لتلك المنطقة الواقعة حالياً ضمن حدود الدولة الاوكرانية، والتي كانت في السابق كياناً سياسياً تمتع بوضع خاص، وظروف سياسية وجغرافية متقلبة، منذ القرن الرابع عشر.
واستخدم مصطلح مالوروسيا، بداية، في عام 1335، وذلك في رسالة وجهها يوري الثاني باليسلاف إلى قائد فرسان تيوتون، ديتريتش فون التنبورغ، بوصفه «حاكم عام روسيا الصغرى»، التابعة لمملكة غاليسيا ولودوميريا (أوكرانيا وبولندا حالياً).
كذلك، استخدمت التسمية في التقسيم الكنسي الذي اعتمده بطريرك القسطنطينية كاليستوس الأول، حين استحدث أبرشيتي «روسيا العظمى» التي ضمت مدينتي فلاديمير وكييف، و«روسيا الصغرى» التي ضمت مدينتي غاليتش ونوفغورادك.
بعد حقبة القرون الوسطى، غابت التسمية لفترة طويلة، بعد سقوط ممالك، وقيام أخرى، إلى أن استعيدت في أواسط القرن الثامن عشر.
ومنذ ذلك الوقت، باتت مالوروسيا تستخدم، بشكل رسمي وغير رسمي، بحسب الظروف السياسية، للدلالة على المناطق التي كانت تابعة للأمبراطورية الروسية في أوكرانيا، إلى أن أتت الثورة البلشفية في عام 1917، لتختفي التسمية مجدداً، بعدما حلّت مكانها تسمية أخرى هي «جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفياتية».
ومع ذلك، ظل اسم مالوروسيا مستخدماً، في الحقبة السوفياتية، على نطاق ضيق، ضمن دائرة الملكيين والقوميين، وذلك حتى الثمانينيات.
وبحسب زعيم «جمهورية دانيتسك الشعبية» ألكسندر زاخارتشنكو، فإن الحديث يدور عن تأسيس فعلي لـ«دولة جديدة مستقلة»، بجدول زمني محدد، بعد مرحلة انتقالية مدّتها ثلاثة أعوام، يفترض أن تجري خلالها صياغة دستور جديد، يُطرح على استفتاء شعبي، بعد حوار مجتمعي، وذلك في ظل «حالة طوارئ» تهدف إلى «منع أي تخريب». ويرى زاخرتشنكو أن هذه الخطوة تمثل «الطريق إلى إنهاء الصراع» في الشرق الأوكراني.
ولا يدور الحديث، في هذا السياق، عن حل تفاوضي، بقدر ما يحمل تحدّياً واضحاً للدولة الأوكرانية، التي صنّفها زعيم المتمردين الموالين لروسيا في خانة «الدول الفاشلة»، داعياً المجتمع الدولي إلى «دعم هذه الفكرة».
أمّا وزير المالية في «جمهورية دانيتسك الشعبية»، الكسندر تيموفييف ــ وهو من تولى الاعلان المذكور أعلاه عن ولادة مالوروسيا ــ فيذهب أبعد من ذلك في مقاربته للخطوط العريضة للدستور الجديد، والوضعية القانونية للدولة الجديدة، باعتبارها «دولة متعددة القوميات»، لغتها الرسمية المالوروسية، مع الحفاظ على اللغات المحلية الأخرى، وتكريس المساواة بين كافة أديانها وقومياتها، وتفكيك الأوليغارشية، من خلال الأطر القانونية المناسبة.
وفي ما يخص العلاقات الخارجية للدولة الجديدة، يقول إنّ مالوروسيا تطمح إلى أن تمارس سيادتها من خلال رابطة الدول المستقلة، وذلك بعد مفاوضات ثلاثية مع روسيا والاتحاد الأوروبي.
ويوضح أن السياسة الخارجية لمالوروسيا «تطمح إلى الانضمام إلى الاتحاد القائم بين روسيا وبيلاروسيا، مع احتفاظها باستقلالها وسيادتها»، فيما يشير إلى أن الإبقاء على نظام التأشيرات الحرّة مع الاتحاد الأوروبي يمكن أن يكون أيضاً موضع اتفاق مع الطرف الآخر.
ومع ذلك، فإن ثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن الترجمة العملية لفكرة الدولة الجديدة لن تكون سهلة، بالنظر إلى التعقيدات القانونية والسياسية المرافقة لها، والتي لا تنفصل عن مجمل الصراع العالمي بين روسيا والغربيين، وفي القلب منه، الملف الأوكراني.
ولعل الملفت في هذا السياق، أن ردّ الفعل الروسي على الخطوة اتّسم بالفتور الذي يعكس عدم الرضى، أو على الأقل الحذر، وإن كان ما صدر من موسكو، منذ الإعلان عن قيام دولة مالوروسيا، لم يصل إلى حد الإدانة التي طالبت بها جهات غربية، أبرزها ألمانيا.
المتحدث الصحافي باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف قال إن الكرملن لن يعلّق على تصريحات المسؤولين في جمهورية دانيتسك الشعبية، مشيراً إلى أن الأمر يحتاج إلى «تفسير ودراسة»، ومشدداً في الوقت ذاته على أن «الجانب الروسي ملتزم باتفاقيات مينسك حول التسوية في أوكرانيا، وما سوى ذلك لن أعلق عليه».
ولكن مساعد رئيس مجلس الاتحاد الروسي فلاديسلاف سوركوف كان أكثر وضوحاً، حين قال إن تلك «الدولة المتخيّلة المسمّاة مالوروسيا عديمة الجدوى»، مشيراً إلى أنّ «سكان دونباس (شرق أوكرانيا) لا يقاتلون من أجل الانفصال بل بهدف الاندماج». أما رئيس الوفد التفاوضي الروسي في محادثات السلام حول أوكرانيا بوريس غريزلوف فرأى أن الإعلان عن قيام دولة مالوروسيا «خطوة لا تتطابق مع مسار مينسك»، مشيراً إلى أن هذه المبادرة هي «جزء من الحرب الإعلامية أكثر منها قضية سياسية حقيقية».
وأما المعلّقون الروس، فبدت مواقفهم متباينة من المسألة؛ فالمحلل يفغيني تارلو، على سبيل المثال، قال في حديث إلى إذاعة «كومرسانت أف أم»: «سمّ تلك الدولة ما شئت، ولكن لا بد من الاعتراف بأن ثمة أناساً يريدون ممارسة حقهم في أن يعيشوا في وطن، وأن يتحدثوا بلغتهم، ويمارسوا حقهم في الانتخابات بشكل طبيعي. إذن، فلندعهم يقررون. هل يريدون أن يكونوا أصدقاء لروسيا؟ فليكن ذلك».
ورأى المحلل الروسي أن «زاخارتشينكو أظهر للعالم بأسره، وحتى لموسكو، أن هناك شعباً مستقلاً (في دونباس)، وهم ليسوا دمى روسية، وليسوا جيشاً روسياً»، مضيفاً «نحن متهمون دوماً بأننا الطرف المعتدي. بعد الآن، لن يتحدث أحد عن روسيا (كطرف في شرق أوكرانيا)، بل عن شعب يطلق على نفسه اسم مالوروسيا».
أما المحلل الكسي تشيسناكوف فقال: «سيكون أمراً مفاجئاً اعتراف روسيا بهذا التوجه. بالطبع، يحق لأيّ كان أن يعبّر عن رأيه، ولكن الأفضل أن ندافع عن مشاريع يمكن أن تحقق نتائج فعلية. وأما مشروع مالوروسيا فلا يملك فرص النجاح. الأمر مجرّد بيانات، وأما القرارات الفعلية فلا بد أن ترتبط بأعمال ملموسة»، مشيراً إلى أنه «حتى الآن، لا يوجد اعتراف رسمي بهذه الخطوة، ولا توجد قوات على الأرض في دونباس قادرة على تحقيقها».
والواقع أن الطرف الآخر في دونباس، والمقصود بذلك جمهورية لوغانسك الشعبية المعلنة بدورها من طرف واحد، لم تبد تأييداً لمشروع مالوروسيا. وبحسب ما صرّح زعيم متمردي لوغانسك ايغور بلوتنيستكي، فإن «المهم، بالنسبة إلينا، هو مواصلة الالتزام باتفاقات مينسك، ومطالبة أوكرانيا بالقيام بالأمر ذاته».
ووفقاً لما أكده أكثر من قيادي في لوغانسك، فإنّ الجمهورية الشعبية المعلنة من طرف واحد ليست معنية بفكرة قيام دولة مالوروسيا، ولا تسعى لأن تكون طرفاً فيها.
في العموم، فإن ثمة إجماعاً على أن مالوروسيا ليست سوى مجرّد فكرة. ومع ذلك، فإن التاريخ القديم والحديث مليء بتجارب تحوّلت معها الكثير من الأفكار الانفصالية إلى دول فعلية.
في عام 2008، علّق الرئيس الروسي السابق، ورئيس حكومة روسيا الحالي، ديمتري ميدفيديف، على استقلال كوسوفو ــ الذي تحوّل بدوره من فكرة إلى أمر واقع ــ بأنه سيفتح «صندوق باندورا» الذي ستنطلق منه شياطين الانفصال، ولعلّ ما شهده العقد الماضي من نموّ للحركات الانفصالية في مناطق عدّة من العالم، يشي بأن الأسطورة الإغريقية تتكرر اليوم على المسرح الجيوسياسي في العالم.