في روايته «عالم جديد شجاع» الصادرة في عام 1932، يتخيل ألدوس هكسلي أن العلم سيسيطر على العالم الجديد، وسيصبح هذا العالم مرتعاً للعقاقير والآلات، وتنتفي فيه العاطفة والشعر والجمال، ويصل التطور التقني إلى حد الاستغناء عن مؤسسة الزواج واقتصار عمليات الولادة على تكوين الأجنة في قوارير بدلاً من تكوينها في الأرحام... انطلاقاً من هذه «التنبؤات»، سيُصنَّف الأطفال، بحكم تركيبتهم الجينية، إلى خمس طبقات، كل طبقة تُعَدّ إعداداً خاصاً يلائم تكوينها الجسماني واستعدادها العقلي.
تبدو هذه الرواية قريبة من الواقع اليوم، إذ نجح فريق من العلماء الصينيين عبر تقنية «كريسبر» للهندسة الجينية بحقن خلايا معدلة لرجل مصاب بسرطان الرئة. هذه التقنية تجرَّب لأول مرة على البشر، على الرغم من سهولتها بالمقارنة مع طرق أخرى في الهندسة الجينية، فهي تقوم على أخذ خلايا من جسم المريض لتعديلها جينياً في المختبر، ثم يُعاد حقنها في جسم المريض، ما يؤدي إلى تعديل جيني تسلسلي في الحمض النووي والقضاء على الجينات ذات البرمجة المعيبة واستبدال المعدَّلة بها من قبل العلماء، فيُقضى على أصعب الأمراض كليّاً ونهائياً.

المخاوف من أن يدمر تعديل
جيني خاطئ بنية الحمض
النووي لدى البشر


كيف تؤثر الهندسة الجينية بالإنسان؟

في داخل كل منا حمضه النووي الخاص، الذي يتألف من جينات عدة، وكل واحدة منها تحتوي على برامج مختلفة، منها مثلاً الجينات التي تحتوي على برمجة للون العيون أو لون الشعر ونوعه... أي برمجة لكل ما يحتويه الجسم من خلايا وأطراف وأعضاء. المشكلة تكمن حينما يولد بعض البشر ببرمجة خاطئة في إحدى جيناتهم، ما يسبب لهم استعداد لأمراض مثل السرطان، أو مشاكل أخرى مثل الصلع المبكر... يأتي دور تقنية «كريسبر» هنا لتأخذ خلايا من هذا الإنسان، فيعدل العلماء الجين المعيب، ليعودوا ويحقنوه في جسمه، ما يبعد عنه ما لازمه من مشاكل نهائياً.
تدغدغ هذه التقنية الثورية حلم البشر بالقضاء نهائياً على الأمراض وإطالة العمر وتحسين النوع وتطويره، إلا أن التنافس الجاري اليوم على الأسبقية في هذا الحقل، ولا سيما بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، أعاد طرح الإشكاليات الأخلاقية القديمة. ماذا سيحصل إذا نجحت التجارب في إعادة بناء الإنسان غبّ الطلب وتحت سيطرة رأس المال؟ كالطموح مثلاً إلى بناء الجندي الخارق ذي الجينات المعدلة. نتحدث هنا عن مقاتل لا يهاب الموت ذي بنية جسدية أقوى بكثير من أي بشري آخر، لا يتأثر بالقنابل الكيميائية ولا تبطئه حرارة الصحراء ولا قساوة الشتاء، لا يتردد في تنفيذ ما يؤمر به، لا يتعب ولا يتذمر، وأذكى في إيجاد حلول على أرض المعركة... وهذا ينطبق أيضاً على مخاطر نشوء طبقية بيولوجية، إذ إن تحويل الأمر إلى نشاط ربحي سيعني أن الأثرياء وحدهم سيتمتعون بالصحة وطول العمر، في حين أن الفقراء سيكونون معرضين للأمراض والوفيات المبكرة.
الأمر يشبه ما قاله نيل أرمسترونغ عند وصوله إلى القمر: «هي خطوة صغيرة لإنسان وقفزة كبيرة للبشرية»، فشفاء مريض سرطان الرئة الصيني فتح الباب أمام تجربة هذه التقنية على أمراض ومشاكل أخرى توصل في النهاية إلى حمض نووي معدَّل حسب ما نريد، وهنا ستبدأ طبقية جديدة بين البشر قائمة بيولوجياً.
في المستقبل سيكون البشر طبقتين حسب كتاب «The Ethics of Inheritable Genetic Modification: A Dividing Line؟»: بشر معدلين وبشر غير معدلين، سيشبه الأمر سياحة الطب التجميلي ويتحول الأمر إلى دكان كبير تدخل إليه فتختار ما تريد تعديله في جسمك لينفذ لك ما تريد، أتريدين شعراً أشقر وعينين زرقاوين؟ لا مشكلة. أتريد أن تزيد معدل ذكائك وبنية جسدية أقوى؟ هذا أمر سهل، هذا هو المستقبل، ستصقل البشرية عملية تطورها بنفسها خلافاً لما تريد الطبيعة لنا أن نكون، سنتمكن من استعمار كواكب أخرى، وسيُعدَّل البشر المستعمرون بجينات خاصة بنوع الحياة على الكوكب المراد استعماره لتسهيل حياتهم عليه والاستفادة من كل ثرواته.
في السابق، وضعت الولايات المتحدة الأميركية ضوابط وقوانين تمنع ممارسة الهندسة الجينية على البشر، إلا أن منذ شهر شباط الفائت أُنشئت لجنة عبر الأكاديمية الوطنية للعلوم والأكاديمية الوطنية للطب، أقرت استخدام الهندسة الوراثية على الأجنة البشرية عندما لا يكون هناك «بديل معقول» متاح، وفقط للقضاء على الأمراض الخطرة.
في المحصلة، إن تقنية كريسبر ليست مثالية حتى هذه اللحظة، وهي تعمل في بعض الحالات. صحيح أننا ما زلنا بعيدين عن البشر المهندسين جينياً، ولكن هذه العملية الناجحة والأبحاث المخبرية القائمة تقترب يوماً بعد يوم من ذلك الزمن، تبقى بعض المخاوف من أن يدمر تعديل جيني خاطئ بنية الحمض النووي لدى البشر، أو أن ينشأ فيروس لا نستطيع القضاء عليه، لذلك يقول القيّمون على هذه الأبحاث إنها يجب أن تكون تحت قوانين صارمة وحدود معينة كي لا ينجرف بعض العلماء إلى ما لا يمكن الرجوع عنه.