قبل عشرة أشهر، كانت دير الزور تتباحث في مصيرها. بدأ الضغط على «داعش» في الرقة والموصل، وكانت المدينة وسطهما تُطرح في غرفها العسكرية اقتراحات مختلفة للتعامل مع الوضع المستجد.في منزل يبعد مئات الأمتار عن مقاتلي «داعش»، قدّم الحاج أبو مصطفى رؤيته «للصمود» في انتظار انقلاب المشهد و«قدوم التحرير من الخارج».

علبة حَلوى بسيطة وإبريق شاي بين كنبة وبضعة كراسٍ كانت «عدّة» الجلسة في مقرّه. شرح باستفاضة عن «المأساة» التي قد تحّل إذا لم «نفعل كذا وكذا». الرجل الذي كان يمرّ في وعكة صحيّة، أظهر ما يتّسم به معظم القادة العسكريين في المقاومة. حاجج بالأدلة والظروف الذاتية «لوحة الدير»، منطلقاً من الجنوب السوري وصولاً إلى العراق.
لم يُظهر أيّ علامات تبشير بهزيمة أو انكسار. كان همّه تعزيز مواقع الجيش والتقدّم نحو نقاط جديدة تُسهم في تحصين المدينة، وتُمكّن الطائرات من الهبوط. يومها حذّر من أيّ تراخٍ، فـ«الضغط سيشتدّ».
شهرين بعد هذه المحادثة، كان ابن الجنوب اللبناني في مهمة في مطار الدير العسكري يسهم في صدّ إحدى أعنف الهجمات على المنطقة. فُصل المطار عن (ما بقيَ من) المدينة. جزيرتان محاصرتان في بحر «داعشي».
9 أشهر قضاها في حصار أقسى وأضيَق. عشية امتصاص الهجمات وتثبيت الوضع القائم في كانون الثاني الماضي، عمل مع القادة السوريين في حامية المطار على خطة الدفاع. كان على يقين بأنّ «الفرج آتٍ». بضع رسائل أسبوعياً منه كانت كافية لتقييم الموقف. كان يجيب كفرد من مجموعة ستحيا معاً أو تستشهد معاً. مرّت أشهر، وانطلقت «عمليات البادية». علم الجميع أن التحرير قادم، ويتطلّب بعض الوقت.
قبل أسبوع، بدا القائد كما لو أنّه أتمّ مهمته: المطار محصّن والشباب «وضعها منيح». أرسل صباحاً رسالة تفيد بقرب الفرج... «الله قادرٌ على تفريجِ الكُرب وإن عَظُمت... صباح النصر والتفاؤل». في اليوم التالي، حلّ موعد التواصل عقب صلاة الفجر. بعد التحية، بشَّر بفك الحصار عن المدينة و«يبقى المطار».
أول من أمس، دخل الجيش المطار وأميط اللثام عن وجه أبو مصطفى. أمام كاميرا الزميلة «الميادين»، ظهر الخمسينيّ ببسمته الخجولة المعتادة. دم وتعب سنوات لخّصها بـ«نموذج حزب الله» في الحرب السورية.
بعد معارك القصير والقلمون ثم تأمين دمشق، ظهرت عشرات المقالات والتحليلات عن انكفاء المقاومة و«انتهاء مهتمها». ثم، بعد التدخّل الروسي في أيلول 2015 أُفرغَ المزيد منها. في المقابل، كانت قيادة المقاومة، بالتنسيق والتشاور مع الحلفاء، في مكان آخر تماماً. في حزيران من عام 2016، حطّ قائد كبير في المقاومة داخل دير الزور. الهدف: تقييم الوضع في المدينة تحضيراً لعمل عسكري ضخم لفك الحصار عنها.
أُجّلت معركة الدير. عملياً، كانت قيادة المقاومة طرفاً أساسياً في طرح التأجيل، لتوقيت «حلبيّ» خالص. ففي الغرب، على تخوم العاصمة الاقتصادية للبلاد وداخلها، كان المشروع الغربي برأس حربته التركية وذراعه «القاعدية» ينظّم أحد أخطر المشاريع في سوريا.
بدأ هجوم المسلحين على «الشهباء». خرج السيد حسن نصرالله ليقول «سوف نزيد من حضورنا في حلب... لأن المعركة الحقيقية الاستراتيجية الكبرى» هناك. وأضاف أن «القتال للدفاع عن حلب هو دفاع عن لبنان وسوريا والعراق... إعطاء فرصة للمشروع الأميركي التكفيري سيضيّع كل الإنجازات السابقة... لذلك كان يجب أن نكون في حلب للدفاع عنها».
حزب الله عقلاً وبشراً وخبرة كان في حلب وريفها. تحرّرت المدينة وحُصّنت. انقلبت الموازين، ورجحان الفائز أصبح يميل أكثر نحو دمشق.
عاد «جناح المحور» فوق الدير. اختتم فصل كبير من فصول معركة «عروس الفرات». كانوا جميعهم، جيش سوري وروس وقوات رديفة.
«ظهر» أمس أبو مصطفى. اختلفت «لعبة الإعلام» لدى حزبه. كان من الممكن أن يستشهد أو يتوفّى بعد سنين طويلة في مكان بعيد، ولتظهر في سيرته أسطر معدودة عن معركة دير الزور. اليوم يتكلّم الحيّ عن حدثٍ آنيّ. بتنا في حرب على مستقبل المنطقة، جزء أساسي منها معركة على الوعي والخيارات.
لعل من الانتقادات التي توجّه للحزب أنه لا يهتم كثيراً بتظهير حجم دوره وحقيقته. لكن المعسكر المعادي الذي يتربص به لتوظيف التطورات الميدانية في مسارات مختلفة سيضطره إلى الكشف في مراحل لاحقة عن مقدار أكبر من حقيقة الدور الكبير الذي لعبه في سوريا والعراق ضد الخطر التكفيري والإرهابي. وما سيفرض عليه ذلك، الحرب الاستباقية التي بدأها الحلف الاميركي في المنطقة، قبل استكمال الانتصارات في سوريا والعراق، والتي تهدف إلى تشويه دور المقاومة وطمسه. هذه الحرب قائمة أصلاً في لبنان (تحرير حدوده الشرقية نموذجاً) ويبدو أنها انتقلت إلى العراق. وهي من متطلبات معركة ما بعد «داعش». لكن مشكلة المحور الأميركي هي الحضور القوي لدور محور المقاومة في المعركة ضد التهديد الإرهابي، لدى شعوب المنطقة، وهو ما سيترك أثره القوي على الواقع السياسي الذي سيتمخّض عن هذه المقدمات... من هنا كان لا بد من العمل على طمس الوقائع الحاصلة وتشويهها.
«أبو مصطفى الدير» صورة من مشهد ضخم يتشكّل في المنطقة. هو جزء من معركة ستقودنا بعد مدة إلى جواب عن سؤال «من صنع النصر؟». واشنطن وأتباعها «يطبخون» الإجابة مسبقاً... ولذلك كان «القائد العسكري لحزب الله في دير الزور» قرب الحدود مع العراق يقف ببزّته المموّهة ليقول بلغة الميدان، حزب الله جزء لا يتجزأ من هذا المحور الممتد من طهران إلى العراق فسوريا ولبنان وفلسطين. حزب جزء أساسي من الجبهة الإقليمية التي تخوض معركة اجتثاث الارهاب من المنطقة، وهو سيكون موجوداً، وبقدر ما تتطلبه حاجة الميدان، في أيّ ساحة، أياً كانت المسافة التي تفصلها عن حدود لبنان. وبالتأكيد إن تظهير هذا الوجود والدور انطلاقاً من الميدان ينطوي على رسالة سيكون لها وقعها وأثرها المربك على المخططات المضادة التي تسعى إلى سرقة النصر أو توظيفه في سياق خيارات يتم تهيئة الساحة كي تلعب دوراً مكملاً وبديلاً من «داعش». وعلى هذه الخلفية، من المتوقع أن نشهد فصولاً إضافية من هذا الكباش في محطات مقبلة، ليس من الصعوبة استشراف معالم حلقاته.