ظن الأتراك أن أيام الحكم العسكري باتت وراءهم منذ تسلّم «العدالة والتنمية» السلطة قبل 15 عاماً، لكن تركيا ــ رجب طيب أردوغان، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016، باتت تتحول إلى نموذج «إسلامي» عن ديكتاتورية الحكم العسكري. ومنذ عام على الأقل، لم يتصرف «العدالة والتنمية» تجاه معارضيه بشكل مسالم، بل سمح لنفسه عبر مراسيم حالة الطورائ بخلق حالة من القمع في تركيا، لم تتوقف على ما يبدو عند اعتقال صحافيين وأكاديميين وفصل 150 ألف شخص من عملهم، بل باتت تتخذ أشكالاً أكثر خطورة.
ووفق تقرير لمجلة «بوليتيكو» الأوروبية، نشر أمس، فإن حالات «اختفاء» غامضة بدأت تظهر، مستهدفة أشخاصاً فصلوا من عملهم للاشتباه في ارتباطهم بجماعة الداعية الاسلامي فتح الله غولن، المتّهم بتدبير محاولة الانقلاب. وإضافة إلى ذلك، فإن شكلاً آخر من أشكال الاستهداف غير القانوني تحدثت عنه صحيفة «دير شبيغل» الألمانية، قبل أسبوعين، وهو عن ملاحقات بهدف الاغتيال يقوم بها جواسيس للمخابرات التركية في ألمانيا بحق سياسيين أكراد.
وفي داخل تركيا، يشكك الناشطون في مجال حقوق الإنسان في أن الدولة قامت بإخفاء 12 شخصاً على الأقل من دون وجود دليل على اعتقالهم من قبل الشرطة، وفق «بوليتيكو».
ومن ضمن تلك الحالات، قصة جميل كوتشاك، المهندس الزراعي الذي أجبره مجهولون على الركوب في حافلة رمادية داكنة على الطريق أمام عيني ابنه البالغ من العمر ثماني سنوات في حزيران الماضي. وتحدث مدير فرع آسيا والشرق الأوسط في منظمة «هيومن رايتس ووتش»، هيو ويليامسون، عن وجود «أرضية معقولة» للاعتقاد بأن كوتشاك وثلاثة رجال آخرين قد تم إخفاؤهم قصراً من قبل الحكومة. ويرفع بعض السياسيين المعارضين الرقم إلى ثمانية أشخاص، فيما تقول منظمة «حقوق الإنسان في تركيا» إنها وثّقت عشر حالات اختفاء منذ أيار الماضي، حالتان منها وقعتا في حزيران.
أما المشترك بين حالات الاختفاء الأربع التي وثّقتها «هيومن رايتس ووتش»، فهو أن الرجال الأربعة جميعهم فقدوا أعمالهم بسبب مراسيم الطوارئ، ولهم جميعاً «رابط ضعيف» مع جماعة فتح الله غولن.
وقامت بعض عائلات المختطفين برفع قضاياهم إلى «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان»، التي حققت في التسعينيات في قضايا مماثلة في تركيا واستنتجت حينها أن الدولة كانت مسؤولة عن العديد من حالات الاختفاء، التي وجد بعض ضحاياها مقتولين.
أما الآن، فيبدو أن تلك الممارسة عادت إلى الظهور مجدداً، على الرغم من عدم وجود دليل قاطع على التورط المباشر للحكومة التركية في عمليات الاختفاء. في المقابل، تدحض قضية أوندر أسان الذي اختفى ثم أخلى مختطفوه سبيله تلك النظرية، إذ بيّنت قصته أنه على الأقل تسمح السلطات التركية لتلك الممارسات بالحصول أو تغضّ الطرف عنها. وأسان، وهو مدرس سابق يعيش في أنقرة، اختطف في نيسان، ويصف أحد شهود العيان أن مجموعة من الرجال المجهولي الهوية قاموا بجرّه من سيارة الأجرة، مدّعين أنهم من الشرطة، وأجبروه على الصعود في حافلة فولسفاكن سوداء.
ستة أسابيع مرّت ولم تعرف عائلة أسان عنه شيئاً، إلى حين العثور عليه في مركز للشرطة. بعدها، أخبر أسان محاميه أنه قبل أن يتم توقيفه قانونياً، كان قد تعرض للتحقيق والتعذيب في مكان مجهول. وبعد أيام من ظهوره، سجن أسان لاحقاً بتهم «إرهاب»، وذلك من منطلق أنه كان يدرس الفلسفة في جامعة خاصة تابعة لفتح الله غولن.

وثّقت منظمات أهلية تركية عشرات الحالات من الاختفاء غير المبرر

واختفاء أسان وعودة ظهوره مجدداً في مركز تابع للشرطة يسمحان بالتحدث عن رابط أو دور للدولة في عمليات الاختفاء تلك، وفق ما استنتجت «بوليتيكو». يضاف إلى ذلك أنه في معظم حالات الاختفاء الغامضة، قالت العائلات إن السلطات لم تُبدِ اهتماماً حقيقياً بالبحث عن المختفين وإيجادهم، فيما تأمل أن تقوم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتحقيق جدّي في المسألة.
وفي خارج تركيا، تتحدث بعض التحقيقات عن تخطيط الحكومة التركية، عبر جواسيس مخابراتها، لعمليات اغتيال لسياسيين ومسؤولين أكراد في ألمانيا. وبعد لقائه مع يوكسل كوتش، وهو الرئيس المشارك لـ«مؤتمر الجمعيات الكردية الديموقراطية الأوروبية»، تحدث الصحافي في «دير شبيغل» مارتن كنوبي عن تخوف كوتش الجدي من ورود اسمه على «لائحة» للمخابرات التركية لأشخاص تريد «قتلهم»، ما يجعله يعيش متنقلاً بين مدينة وأخرى خشية من تحول الأمر إلى حقيقة. ووفق ما أوضح كنوبي في تحقيقه، فإن كوتش أخبره أن تلك اللائحة «وضعها الرئيس رجب طيب أردوغان بنفسه»، وذلك وفق ملاحظات خطية حصل عليها كوتش من وسيط، يقول إنها للجاسوس التركي الذي كلف باغتياله.
وتحقق السلطات الألمانية مع فاتح س. الذي يعتقد أنه جاسوس المخابرات التركية الذي كان يلاحق كوتش. ومع أنه اعترف للسلطات عن خططه بالقيام بعملية اغتيال كوتش وكذلك «استهداف» رئيس «حزب الخضر» في ألمانيا جيم أوزدمير، لكن المحققين يشكّكون في صحة كل أقواله.
لكن القضية تسلط الضوء على دور قديم وحقيقي للمخابرات التركية داخل ألمانيا، ليس فقط عبر عملاء المخابرات، بل من خلال بعض أئمة المساجد التابعين لـ«اتحاد الشؤون الدينية التركي الإسلامي»، وفق ما تقول بعض وسائل الإعلام الألمانية. وتشتبه السلطات الألمانية في حوالى 20 إماماً يعملون جواسيس للحكومة التركية، مع العلم بأن «اتحاد الشوؤن الدينية» المرتبط مباشرة بتركيا، يدير حوالى 900 مسجد في ألمانيا. وتظهر تلك التحقيقات كذلك سعي الحكومة التركية للتحكم في المجتمع التركي الموجود في ألمانيا. ويشار إلى أن الحكومة التركية سبق أن أرسلت لائحة بأسماء أشخاص في «حزب العمال الكردستاني» وجماعة فتح الله غولن للحكومة الألمانية، يحقق القضاء الألماني في ما إذا كانت مصنّفة كـ«قائمة اغتيالات».
(الأخبار)