أفرز الإخفاق الإماراتي ــ السعودي في إدارة المحافظات الجنوبية في الشهور الماضية فهماً مختلفاً عمّا كان عليه في السابق، واستطاعت القيادات الوطنية وبعض النخب الصامدة أمام الإغراء المالي كسر حاجز الخوف وتسمية الأشياء بمسمياتها. ونجحوا في فضح حقيقة الوجود الإماراتي ونيته استثمار الموقع الجغرافي الاستراتيجي للجنوب اليمني على حساب تطور البلد وازدهاره.
انكشف للجنوبيين بوضوح الاختلاف بين أجندة القضية الجنوبية والأجندة الخاصة لدول الخليج، وبالتحديد السعودية والإمارات. ويجد الفريق الإعلامي والدعائي للرياض وأبو ظبي (وكذلك الغرف التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي في أبو ظبي وعدن) صعوبة بالغة في إقناع الشعب بصوابية فكرة تحرير عدن والتخلص من الإرث القديم بفصوله كافة. بل إن الفريق ذاته الذي يديره خبراء أجانب مختصون في الدعاية والترويج يجهد في الأسابيع الأخيرة لمنع، أو الحد من كلمة «الاحتلال الإماراتي»، عن أذهان النخب والقيادات الجنوبية، لما تتركه من آثار في وعي الشعب الذي بدأت إشارات استفاقته تظهر في حالات اعتراض متعددة.
يظهر الجانب الإماراتي خشية من أن تتحول تلك الإشارات إلى حالة ثقافية عامة في المجتمع يصعب عليه معالجتها في المستقبل. ويرجع التحول في مزاج الرأي العام والنخب في جنوب اليمن إلى عدة أسباب منها:
ــ الفشل في توفير الأمن وسيطرة الميليشيات في عدن وبقية المحافظات إضافة إلى استمرار تراجع الخدمات الحكومية الأساسية (الكهرباء، المياه، المشتقات النفطية)، إضافة إلى استمرار أزمة الرواتب، وغياب نموذج جاذب للمناطق التي تسمى محرّرة يمكن به إعادة بناء مؤسسات الدولة.
ــ تنامي الانطباع لدى قطاعات كبيرة من الشعب الجنوبي عن أن تحرّكات الإمارات في اليمن لا تتوافق مع مصلحة اليمنيين عموماً والجنوبيين خصوصاً، بل تسعى أبو ظبي إلى تحقيق مصالحها الخاصة في السيطرة على المواقع الاستراتيجية والحيوية في اليمن، وخصوصاً السواحل والممرّات المائية الدولية المطلة عليها أو القريبة منها، وكذلك الجزر التي تقع فيها، وذلك في إطار سعيها للتحول إلى قوة إقليمية تحتاج إليها الولايات المتحدة الأميركية في الإقليم.
ــ اشتداد الصراع بين الأطراف المحسوبة على التحالف العربي وتغذية كل من السعودية والإمارات ذلك الصراع بالدعم التي تقدمه كل دولة إلى المحسوبين عليها، وانعكاس ذلك على الشعب الجنوبي. وغالباً ما تكون الصراعات بين القوى العسكرية والأمنية التي بنيت على أساس مناطقي وفئوي.
ــ الفشل العسكري لدول التحالف في تحقيق أيّ منجز في الميدان الشمالي منذ أمد طويل.
ــ النجاحات العسكرية والاستراتيجية لمحور المقاومة في كل من سوريا ولبنان والعراق مقابل إخفاق السعودية وحلفائها وتراجع دورهم.
ــ إفلاس الدعاية الخليجية في الاستمرار في تكوين سردية مذهبية ملّ منها الجمهور، وقد توّج فشل تلك السردية بتقارب السعودية مع العراق على المستويين الرسمي والحزبي، واضطرارها لإنجاح تلك العلاقة إلى عزوف إعلامها عن التلاعب بالوتر المذهبي.
ــ تأثير الأزمة الخليجية بين كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة، وقطر من جهة أخرى، في اليمن عموماً والجنوب خصوصاً. من المفيد التذكير بأنه منذ اللحظة الأولى للوجود الخليجي في جنوب اليمن منذ قرابة سنتين، انطلقت حملة إعلامية ودعائية كبيرة هدفت إلى ترسيخ المفاهيم والسياسات الفئوية والمذهبية التي تتماشى مع أهداف التحالف في اليمن عموماً والجنوب خصوصاً. خلاصة تلك الأهداف أن الحرب التي يشنّها التحالف على اليمن هي لمنع الوجود الإيراني، وبخصوص الجنوب طرد من سمّوهم «الغزاة الشماليين»، وقد أوغلت الدعاية الخليجية في التحريض المناطقي بين الشمال والجنوب، وكذلك في اللعب على الوتر المذهبي، وقد نجحت في دقّ إسفين بين الشطرين اللذين يشكلان اليمن الموحد.
في الشمال، وجدت الدعاية السعودية من يتصدى لها، ويعمل على إطلاق حملات مضادة لإبطالها وتبيان الأهداف الحقيقية للعدوان. ساعد في ذلك ثبات الجبهة الداخلية، وتكاد الأزمة الأخيرة التي تم تداركها بين «أنصار الله» و«المؤتمر الشعبي العام» هي الوحيدة التي استطاع الإعلام الخليجي النفاذ منها وتوسعة الشقاق بين الطرفين. وما خلا تلك الأزمة، فإن الجبهة الإعلامية اليمنية، رغم إمكاناتها المحدودة، حاضرة بقوة.
أما في الجنوب، فوجدت الدعاية الخليجية أرضاً خصبة، حيث تلقّف الكثير من الشباب التحريض المذهبي والمناطقي، فانخرطوا مع الحملة السعودية ــ الإماراتية. حتى إن فئة لا يستهان بها من الشباب الذين تماهوا مع الحملات العسكرية والدعائية الخليجية، آباؤهم من «الجيل الاشتراكي السابق» الذي حكم جنوب اليمن منذ عام 1968 حتى 1990 وليس له أيّ ارتباط ديني، والآن أصبحوا فجأة يرفعون شعارات مذهبية وعنصرية تخالف تاريخ آبائهم وحتى دولتهم السابقة وكذلك عدالة قضيتهم الجنوبية.
ولم تقتصر الحملة على فئات الشباب، بل إن خطاب الكراهية والبغض والعنصرية شمل جميع الفئات العمرية والأكاديمية والنقابية والاجتماعية والقبيلة، ولم يكن بمقدور أحد من الشخصيات والقيادات الوطنية الوقوف في وجه تلك الدعاية. في مقابل بثّ خطاب الكراهية بين أبناء الوطن الواحد (مذهبياً ومناطقياً)، عمدت المنظومة ذاتها إلى تمجيد الوجود الأجنبي (الخليجي والأميركي) في البلاد والثناء عليه، وتقديس رجالات الدول التي تحتل البلد وتصويرهم بأنهم المنقذون والمخلّصون للجنوب من جهل الأزمنة الغابرة، خصوصاً ما يسمّونه الاحتلال الشمالي، فانطلقت في أرجاء البلاد حملات «شكراً مملكة الحزم وشكراً إمارات الخير».
كان على المواطنين تقديم واجب الشكر مع كل صلاة لحكام السعودية والإمارات، وكذلك أن تشمل تصريحات القيادات المحسوبة على التحالف لازمة ثابتة في هجاء إيران وذمّ تدخّلها في الإقليم. وقد وصل التزلف والخضوع وطلب نيل الرضا من المحتل بقائد سياسي كعيدورس الزبيدي (المحافظ السابق لعدن) أن ينزل إلى الشارع رداً على استنكار إيران مقتل حجّاجها في مجزرة منى عام 2015. هذا نموذج بسيط من نماذج كثيرة هابطة عجّت بها مواقف القيادات الجنوبية في «أيام العز الإماراتي» هناك.
مع مرور الأيام وانفضاح الأهداف الخليجية في السيطرة على البلد واستغلال مرافقه الحيوية، يتّسع الوعي الجماهير والنخبوي صوب تلك الأهداف، فيتآكل دور كل من أبو ظبي والرياض من الداخل اليمني ليحلّ بدل صلاة الشكر اليومية للعاصمتين وقادتهما التشكيك في طبيعة ذلك الدور، من دون أن تجد الدعاية الخليجية القدرة على الإقناع والتبرير.