«لو كان ظاهر الأشياء مماثلاً لجوهرها لما كان هناك حاجة للعلم»كارل ماركس

اعتبرت الحكومة اللبنانية أن السبب وراء إعلانها «أن لا سلسلة من دون ضرائب» يكمن في أنها لا تريد لبلدنا أن يصبح مثل اليونان. وحتى لا نعطي الحكومة حقاً لا تستحقه في أنها بذلك الإعلان عبّرت عن «لحظة اكتشاف» أو Eureka moment، نشير إلى أن هذا التحذير قديم جداً، واستعملته «الهيئات الاقتصادية» وكبار الناطقين باسمها مراراً وتكراراً، في كل مفترق اقتصادي، ومنها أخيراً ــــ ولن تكون آخراً ــــ السلسلة.

فاليونان توّجت منذ زمن «الفزاعة المفضلة» لدى الرأسماليين اللبنانيين لتخويفنا من أي شيء قد يطاول مصالحهم من قريب أو بعيد. فلنعطِ أجوراً أعلى في القطاع الخاص؛ كلا سنصبح مثل اليونان. لنعطِ السلسلة: كلا سنصبح مثل اليونان. لنعِد بناء القطاع العام عديداً وعتاداً، أو لنضع ضرائب على الثروة أو أو... لا فرق؛ كلا سنصبح مثل اليونان.
لذلك من المهم وضع الأمور في نصابها كما يُقال كثيراً الآن (ولكن ذلك لا يحصل أبداً!). وهنا لا بد من بعض الملاحظات حتى نكون منصفين لهذا البلد الصديق الذي يمرّ في أصعب المراحل في تاريخه.
أولاً، إذا نظرنا إلى بعض من مؤشرات الاقتصاد اليوناني عشية دخوله في الأزمة عام 2010، نرى أنها قريبة من مثيلتها في لبنان اليوم. بالتحديد، إذا أخذنا مؤشرات يحكي عنها الجميع الآن وتكلم عنها تقرير صندوق النقد الأخير، وهي أيضاً مؤشرات على مخاطر التخلف عن الدفع (default) من قبل الدولة لديونها، ألا وهي عجز الخزينة والدين العام، فإن عجز الخزينة في اليونان عام 2008 كان يبلغ 10% والدين العام إلى الناتج المحلي 105%، وفي عام 2009، 15% و129% على التوالي. إذا قارنا هاتين السنتين مع لبنان اليوم حيث يسجل هذان المؤشران 9% و150%، فإن النتيجة تكاد تكون التعادل ما عدا أن عجز الخزينة في اليونان كان آخذاً بالازدياد، وأعلى بكثير من لبنان، ما أنذر بانفجار الدين اليوناني آنذاك.
لكن المسألة ليست كلياً في عجز الخزينة أو الدين العام. إذ إن الخطر لا يكمن فقط في زيادة العجز أكثر من 9% أو الدين العام للناتج إلى أكثر من 150% إذا أردنا أن ننفق حكومياً على البنى التحتية أو على السلسلة (وهذا حصل مسبقاً في لبنان في الفترة السابقة ولم يحصل شيء؛ في التسعينيات سُجلت عجوزات بلغت أكثر من 20 في المئة من الناتج!) بل باستمرار مقدرة الدولة على الاستمرار في الاستدانة وإيجاد سوق أو «زبائن» للسندات التي تصدرها دورياً. فهنا كان مقتل اليونان، لأنها في خضمّ الأزمة المالية العالمية وانعدام السيولة وارتفاع الفوائد وعدم مقدرة المصرف المركزي اليوناني على طبع اليورو، دخلت اليونان في الأزمة وخضعت فيها لـ «خطط إنقاذ مالية» عديدة بشروط قاسية من قبل الترويكا (المصرف المركزي الأوروبي، صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية)، ما أدى إلى تعمّق الأزمة على مستوى الاقتصاد الحقيقي وخضوعها للتقشف والتكيف عبر الانكماش الداخلي (deflation)، لأنها لم تستطع، حتى تحت حكم اليسار، أن تخرج من منطقة اليورو وتتبع سياسة نقدية مستقلة تتحكم بإصدار عملتها الدراخما وقيمتها طبقاً لأهدافها الاقتصادية. وهنا يجمع الكثيرون على أن مشكلة اليونان لم تكن الدين، بل النظام المالي الأوروبي الذي فرض عليها شروطاً قاسية وقاتلة عند تعثرها.
وفي هذا الإطار أيضاً، علينا أن نتذكر أنه في عامي 2002 و2007 خضعت الدولة اللبنانية، كاليونان، لخطط «إنقاذ مالية» (financial bailouts) في باريس 2 و3، كانت نتيجتها التزامات بتزويد الحكومة اللبنانية بسيولة من العملة الصعبة بلغت 10 مليارات دولار ونحو 7 مليارات دولار على التوالي، ولكن الفرق بينها وبين خطط الترويكا كانت في عدم إلزام لبنان بالتقيد الحديدي بـ«التقشف» الذي أنهك اليونان.
ثانياً، إذاً ما الذي يفرقنا عن اليونان؟ الأمر الأول، أن الاقتصاد السياسي الذي استطاع أن يحافظ على الاستقرار النقدي في لبنان لم يكن موجوداً هناك. فالترويكا المحلية المؤلفة من الدولة والمصارف والمصرف المركزي أقامت سياسة، بدأت عام 1992، أعمدتها كانت ولا تزال على التوالي: المصارف التي أعلنت أنها مستعدة دوماً لتمويل الدولة اللبنانية في البدء بالعملة اللبنانية، ومن ثم بالعملات الأجنبية؛ عدم رغبة الدولة في استعمال سعر الصرف اقتصادياً، أي لزيادة التنافسية اللبنانية أو لخفض القيمة الحقيقية للدين العام؛ وأخيراً التزام المصرف المركزي لارتهان سياسته النقدية لتثبيت العملة اللبنانية. بذلك (بالإضافة إلى باريس 2 و 3 والودائع الأجنبية لدى المصرف المركزي) استطاع لبنان أن يحافظ على التثبيت لمدة أطول وأكثر من أية دولة في العالم، وعلى رأسها الأرجنتين والأوروغواي اللتان كانت لديهما سياسات تثبيت حديدية فشلت، أو جرى التخلي عنها، في النهاية.
لهذا، بالرغم من عجوزات خزينة ودين عام أعلى من اليونان (بلغ 170% عام 2006) عشية باريس 3، ورغم تطور مؤشرات أخرى نقدية وفي الحسابات الخارجية كانت ستودي بالتثبيت في أي بلد آخر، لم يحصل الانهيار النقدي في لبنان، ولا تخلت الدولة عن سياسة التثبيت (وهما أمران مختلفان لا يميز الكثيرون بينهما!).
الأمر الثاني، اليونان تعيش في إطار منطقة اليورو، وبالتالي ــ كما ذكرت سابقاً ــ لم يكن لديها الخيار بطبع العملة وتمويل عجوزاتها. وهذا الأمر متوافر لنا، ويقوم به المصرف المركزي عندما يمول العجز عبر شرائه مباشرة سندات الخزينة بالليرة اللبنانية، وقد بلغت محفظته منها ما يساوي 20 مليار دولار أو 43% من مجموع إصدارات السندات في نهاية 2016. إذاً، تصوروا للحظة أننا لا نستطيع أن نصدر سندات بالليرة اللبنانية، أو أن المصرف المركزي لا يستطيع طبع العملة، فماذا كان سيحدث؟
إلا أنه، في الوقت نفسه، لا يمكن حل مسألة تمويل الدين بطبع العملة، وإلا تهدد سعر الصرف، ولا بالاستدانة فقط بالعملة اللبنانية. فمنذ 1998 توجهنا إلى الاستدانة أكثر بالدولار الأميركي. وهذا يتطلب، بسبب اكتتاب المصارف اللبنانية بها لأن الطلب الخارجي عليها غير كافٍ، استمرار نمو التدفقات المالية من الخارج. وإلى هذا اليوم، وبسبب عجوزات ميزان المدفوعات لسنوات، يلجأ المصرف المركزي إلى «الهندسات المالية» لاجتذاب التدفقات لسد العجز لأنه يشكل استنزافاً لاحتياطات لبنان بالدولار الأميركي، وسيضع إذا ما استمر، عاجلاً أو آجلاً، حاجزاً أمام استمرار مقدرة المصارف على الاكتتاب باليوروبوندز لتمويل جزء من عجز الدولة. وإذا حدث ذلك، نصبح فعلاً مثل اليونان لأننا عندها سنواجه ما واجهته الحكومات اليونانية عندما لم تكن تستطيع أن تطبع اليورو، كما لا نستطيع نحن اليوم أن نطبع الدولار!
ثالثاً، هل سأل البعض أنفسهم لماذا اليونان هي ما عليه الآن؟ الأسطورة السائدة تقول إن بلاد الإغريق تعجّ بالكسالى، وفيها من الفساد المستشري ما أرهق الدولة والاقتصاد، وهي تعيش على الدين ومواطنوها لا يدفعون الضرائب... فوصلت إلى ما وصلت إليه. لكن القصة ليست كذلك بالكامل، بل أعقد بكثير. فمنذ دخلت اليونان منطقة اليورو، وبعد توافر الفوائض الكبيرة لدى البنوك الألمانية بسبب الخلل التجاري لمصلحة ألمانيا، ذهبت هذه البنوك وغيرها في الشمال الأوروبي إلى إقراض دول جنوب أوروبا (ومنها اليونان). وكانت الفوائد منخفضة جداً، فبدا الأمر للجميع سهلاً ومضموناً ويحقق الربح للمصارف التي كانت بحاجة إلى تصريف سيولتها الفائضة، واستفادت من فروقات الفائدة بين ألمانيا واليونان، فاقترضت البنوك اليونانية، ومن ثم أقرضت بدورها الحكومات اليونانية لتنفق على الألعاب الأولمبية والبنى التحتية وغيرها من دون حساب للمستقبل، لأن الكل كان يظن أن ذلك العالم المالي السهل سيستمر إلى ما لا نهاية. لكن أزمة 2008 العالمية انفجرت في الولايات المتحدة ووصلت إلى أوروبا، فانهارت البيوت الكرتونية واحداً تلو الآخر، وكان الانهيار الأقسى في اليونان. وللمهتم، يحكي وزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس التفاصيل والأسباب كلها في كتابه «أوروبا، التقشف والتهديد للاستقرار العالمي». فالنظام المصرفي الأوروبي، لمصالحه الضيقة، كان مثل شايلوك الذي أقرض ومن ثم أتى ليطلب الدفع من لحم الشعب اليوناني ودمه.
أما في لبنان، فكانت الخطيئة الأصلية في 1992 خفض الضرائب على الأرباح والرأسمال لتحويل لبنان إلى «جنة ضريبية»، ما اضطر الحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى الاستدانة، ومن كان حاضراً لإقراض الدولة؟ بالطبع المصارف التي راكمت الأرباح والرأسمال من إقراض الدولة بفوائد مرتفعة على مدى 25 عاماً، بينما راكمت الدولة، في المقابل، الديون على مدى 25 عاماً. هناك كانت المصارف الألمانية، وهنا كانت ــــ ولا تزال ــــ المصارف اللبنانية. وفي هذا كان لبنان كاليونان أو اليونان كلبنان لا فرق.
الآن ماذا سيحدث؟ وما هو المستقبل الذي يواجهنا؟ بعد قبول الطعن الشعبوي من قبل المجلس الدستوري، تواجه البلاد استحقاقاً اقتصادياً سياسياً. فالأمر ليس دستورياً على الإطلاق، والتغني بـ«انتصار الدستور» لن يغير شيئاً، بل قد يدخلنا في عالم من الغيب والآمال الكاذبة ستكون عواقبه وخيمة. نحن الآن ندخل في حالة من اللايقين، والأمور بحاجة إلى معالجة جدية ووقفة وطنية. فلا ردود المصرف المركزي الضعيفة ستنفع، ولا قرارات وزير العدل بكمّ الأفواه ستنفع (ولن تمنع أحداً)، وكذلك لن يفيد قرار المجلس الدستوري، في حد ذاته، الاقتصاد ولا الطبقات التي باسمها قُدم الطعن.
قد يكون هناك أمل أخير بأن يلعب مجلس النواب دوره بالإنقاذ؛ أولاً، بإصدار قانون ضرائبي جديد يضع الضرائب على الأرباح والريع والثروة لتمويل السلسلة ووقف كرة الثلج المرشحة للتدحرج؛ وثانياً بأخذ زمام المبادرة على مستوى السياسة النقدية. فلا سياسة فوق المساءلة والديمقراطية لا يمكن أن تغلبها الأسواق المالية والمصارف والمصرف المركزي لأننا لا نستطيع بعد الآن أن نترك الاقتصاد والتحكم به بيد القلة كما كان الأمر في الـ 25 سنة الماضية. وهنا لا بد من العودة إلى السؤال: هل نحن مثل اليونان؟ هذا يعتمد، كما رأينا، على إذا ما كنا مثل اليونان قبل 2010 أو بعده أو سنكون مثل اليونان في المستقبل؟ الجواب مفتوح على كل الاحتمالات، مثله مثل الاحتمالات في التجربة الذهنية «قطة شرودينجر»، فإما يبقى الاقتصاد حياً أو يموت أو يبقى حياً ــــ ميتاً، كما حاله الآن، كاقتصاد الزومبي.