هذا التساؤل يعود إلى الاستنتاجات من أجوبة رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراغي، خلال مؤتمره الصحافي عن تطور السياسة المالية لمنطقة اليورو خلال الفترة المقبلة. أشار إلى ضرورة استمرار سياسة التحفيز الكمي لدعم النشاط الاقتصادي لفترة طويلة وتنشيط النمو. فعلى الرغم من بعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية التي برزت مؤخراً على الصعيد الأوروبي، إلا إن الاقتصاد لم يستطع إلى الآن أن يجد الطريق السليم لتأمين معدل تضخم مرتفع ومستدام، الأمر الذي يدل على وجود خلل ما.
في نظرة شاملة، لا يزال الاقتصاد العالمي في مرحلة ما بعد الإعصار (الأزمة)، أي في المرحلة الانتقالية ما بين دورتين اقتصاديتين متينتين على المدى الطويل. وهنا لا أتكلم عن أزمة مالية ناتجة عن سوء استخدام الائتمان المالي، إنما عن مصادر اختلالات ماكرواقتصادية مهمة تُبقي الاقتصاد العالمي في إطار انعدام توازني.

1- الخلل التكنولوجي والابتكار

الخلل الأول هو تكنولوجي، حيث يمر الاقتصاد العالمي في ازدهار ابتكاري، ولكنه في الوقت نفسه ذو تأثير محدود على الإنتاجية. هذا الوضع ليس سهلاً، بحسب جوزف شامبتر، إذ إن فترة الابتكارات دائماً ما تكون البداية لانطلاقة في دورة اقتصادية طويلة عنوانها مكاسب قوية في الإنتاجية. أما الآن، وعلى الرغم من الفورة في الابتكارات، فإن بداية الدورة الاقتصادية الطويلة بدت بطيئة ومكاسبها الإنتاجية محدودة (مكاسب الإنتاجية هي فائض ناتج عن العملية الإنتاجية، وكلما ارتفعت كلما زاد الدخل الحقيقي).
هنا، يمكن الربط بين ما يحدث الآن وبين فترة اكتشاف الكهرباء. في تلك الفترة، لم تأت الفورة الاقتصادية من اكتشاف الكهرباء نفسها، إنما من الأُسس والإجراءات العملية والنظامية للإنتاج التي وضعت قيد التنفيذ، والتي أخذت في الحسبان وجود الكهرباء كعامل مساعد. لذلك، إن تأثير ابتكار الكهرباء على الاقتصاد ككل أخذ فترة طويلة للظهور من خلال رسم مسار نظامي انعكس إيجاباً على الإنتاجية.
وعلى الأرجح، إننا في مسار مشابه لتلك الفترة. هناك دراسات حديثة دلّت على أن الضعف في تأثير التكنولوجيا على الإنتاجية سببه التوزيع غير المتكافئ للابتكار. فالتعايش بين شركات كبيرة، من جهة، تحقق مكاسب إنتاجية مهمة نتيجة العائدات المالية المتزايدة من اندماج الابتكار في منظومتها الإنتاجية، وشركات صغيرة الحجم، من جهة أخرى، ذات مداخيل محدودة تحدّ من إدخال التكنولوجيا بالسرعة نفسها والكفاءة في منظومتها الإنتاجية، يؤدي مع الوقت إلى ضعف النمو في مكاسب الإنتاجية العامة، حتى فِي ظل هذا النمو السريع للابتكار. هذا يعني، أن المنظومة العامة للإنتاج لم تنته بعد من رسم المعالم والأطر التي تسهل استيعاب التطور التكنولوجي على المستويات كافة وترجمته في زيادة مكاسب الإنتاجية.

2- خلل في النظام الاقتصادي العالمي

إن مفهوم المنظومة الاقتصادية العالمية بدأ يتغير مع الوقت. فقساوة الأزمة المالية عام 2008 أدت بشكل أو بآخر إلى خلط أولويات الصراع بين رواية أورويل الاشتراكية ونظرية فريدمان للسوق الحر؛ الأمر الذي أدى مع الوقت إلى تعويم رواية هاكسلي للمجتمع التقني. كيف؟
بعد الأزمة، ظهر تخبط واضح بين السلطات المالية والنقدية في العالم، نتج عنه عجز فاضح في استنباط الحلول لمعالجة ذيول الأزمة في مكافحة البطالة وتحفيز النمو. وقد لجأت هذه السلطات تارةً لاجتزاء حلول رأسمالية وطوراً للاستعانة بأدوات اشتراكية للتحكم في الأسواق. ما أدى إلى مزيد من التعقيدات الناتجة عن الأدوات الحمائية، والنظم الإدارية والتنظيمية، والإصلاحات المفترضة لأسواق المال، والتي طالت كافة مجالات العمل والمهن والمحاسبة والرقابة الحمائية... وغيرها. هذه التعقيدات أدت إلى ظهور كم هائل من البيانات (Big Data) الواجب معالجتها لاتخاذ القرار. هذا الانخراط في منظومة بيانات وتشريعات معقدة تصادف مع أداء سريع في الابتكار والتطور التكنولوجي. فوجدت الشركات ضالتها في التكنولوجيا لخفض تكاليف الإنتاج. وبما أن اليد العاملة المؤهلة غير كافية لسد الطلب السريع، والمؤسسات الكبيرة غير مؤهلة لتحقيق انعطافة سريعة نحو الصناعة الجديدة نظراً لشح الاستثمارات من جهة وضعف العرض من اليد العاملة الكفوءة من جهة أخرى، تبقى المراوحة سيدة الموقف لغاية نضوج الأرضيّة اللازمة لاستيعاب النظام الاقتصادي الجديد.

الحالة الشعوبية
هي أفضل وسيلة لانطواء
الدول على نفسها

هذا الأخير أتى في مرحلة يسودها كفاح السياسات النقدية ضد البطالة والسعي لتحفيز النمو. تحت وطأة الأزمة، لجأت الشركات الكبرى، من أجل خفض التكاليف، إلى تسريح أعداد هائلة من اليد العاملة غير الموائمة مع تطلعات الشركات طويلة الأجل واستبدالها بتكنولوجيا روبوتية. الأمر الذي أدى إلى وجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل غير مؤهلين للعمل ضمن المنظومة الاقتصادية الجديدة. الأمر الذي أدى إلى انخفاض مداخيل الأفراد وانعكس سلباً على الاستهلاك وبالتالي النمو. لذلك، نرى أن كثيراً من الحكومات، ومن بينها فرنسا (٢٤ مليار يورو)، وضعت خططاً لمكافحة البطالة من خلال تأهيل وتدريب العاملين على التكنولوجيا الرقمية لكي يتمكنوا من مواكبة المرحلة المقبلة، وهذا ما يؤكد على أن هذه المرحلة تأهيلية بامتياز التي تسبق النظام الذي سوف يسود لفترة طويلة من الزمن.
من خصائص هذه المرحلة أيضاً، هو صعوبة انخراط الشباب في سوق العمل وضيق أفق تطوره ضمن المنظومة القديمة للشركات، فوجد هؤلاء فرصاً هائلة في قطاع التكنولوجيا الذي لا يحتاج إلى رؤوس أموال كبيرة (منظومة الشركات الصاعدة startups). من خصائص هذه الشركات أنها لا تعتمد على الرأس المال الكبير للنهوض. يكفي الشخص إنشاء نموذج مبدئي للمنتج الذي يرغب في تسويقه (prototype)، ومن ثم يحصل على التمويل (وهذا مغاير كلياً لمفهوم الإنتاج السابق الذي كان يعتمد على الإنتاج والتخزين). هذه الشركات تعرف بعصر الشركات النمو السريع (hyper croissance). إن التحول الهام في خصائص هذه المنظومة الاقتصادية الجديدة هو أنها لا تعتمد بشكل كبير على التوظيف الكمي كما أنها غالباً ما تتكون من بضعة أشخاص وتستطيع خلق كتلة نقدية تتخطى مئات المليارات من الدولارات في فترة وجيزة، بينما المفهوم السابق للإنتاج يعتمد على اليد العاملة ورؤوس الأموال لخلق كتل نقدية مشابهة أو أقل منها. هذا بالإضافة إلى أن أغلب الشركات التكنولوجية تقوم على تقديم خدمات تكنولوجية يصعب احتساب قيمتها السوقية، مثل شركة فيسبوك، ما هي القيمة الحقيقية للسهم؟ أضف إلى ذلك أن القيمة السوقية لشركة فيسبوك تتخطى 160 مليار دولار وعدد العاملين لا يتخطى بضعة آلاف. بينما نرى أن شركة الطيران الفرنسية يعمل فيها 96 ألف عامل وتخلق 20 ملياراً سنوياً. إن تأثير الشركة الفرنسية على الدورة الاقتصادية أهم بكثير من فيسبوك لمساهمتها في خلق القيمة المُضافة على الاقتصاد عن طريق خلق فرص عمل، والذي بدوره يؤدي إلى زيادة الإنفاق وكذلك والنمو.
على الرغم من التسارع التكنولوجي الهائل، نجد أن التأثير على الاقتصاد ككلّ يبقى ملحوظاً للعوامل السالف ذكرها. إن محرك الاقتصاد هو الطلب الداخلي. ولتحفيز النمو، يجب خفض معدلات البطالة وزيادة القدرة الشرائية للأفراد، التي من خلالها يزيد الإنفاق وبالتالي النمو الطويل الأجل. وهذا ما تفتقده المرحلة الحالية. لذلك، فإننا في مرحلة انتقالية قد تطول لبعض الوقت لتلمس الأثر الإيجابي للتطور التكنولوجي على الاقتصاد والتي قد تتفاوت بين بلد وآخر، مع أن هذا التفاوت ليس بكبير في الوقت الراهن لأسباب تتعلق بالإنتاجية.

3- الخلل من التوسع العالمي

مصدر آخر من مصادر الخلل يأتي من الامتداد المستمر للعالم. لفترة طويلة، كانت الولايات المتحدة، اليابان وأوروبا المحرك الأساسي للنمو العالمي، وكان النمو يعتمد بشكل أساسي على اقتصاديات هذه الدول (كانت هناك محاولات من دول صاعدة للعب دور مؤثر على النمو العالمي ولكن محاولاتها لم تلقَ النجاح المرتجى وبقيت محاولات موقتة، منها البرازيل أو إيران في سنوات الـ٧٠). أما اليوم، إن الاقتصاد العالمي لم يعد يمتلك نفس الخصائص، فهناك دول صاعدة أصبحت تلعب دوراً رئيسياً في ديناميكية النمو العالمي.
منذ عام 2000، بدأت الدول الصاعدة تحقق نمواً تصاعدياً وسريعاً، بحيث أصبحت في فترة وجيزة تشارك الدول المتطورة مناصفةً في ديناميكية الناتج العالمي (عام 2008). ومن المتوقع أن تصل مساهمتها إلى 60٪‏ خلال عام 2020. بالنسبة إلى الدول المتطورة، ما يحدث يعتبر تغييراً جذرياً في ديناميكية المنافسة على الصعيد العالمي، الذي من خلاله بدأت هذه الدول تخسر من موقعها التجاري والتنافسي على الصعيد الدولي، ما دفع بعضها إلى الإعلان عن اتباع سياسات حمائية وانطوائية (بريطانيا والولايات المتحدة).
هذا الوضع الجديد لم يستقر بعد، حيث أن الصين لا تملك بعد مقومات تنمية مركزة يعتمد فيها نموها على الطلب الداخلي أكثر مما هو عليه اليوم (كذلك الهند، تركيا، نيجيريا...). منذ عقدين من الزمن، شهدت الدول المتطورة انكماشاً في قوتها الاقتصادية والسياسية من دون أن تتمكن من معالجته، وخصوصاً، أن مستوى الإنتاجية كان منخفضاً ولم يترك مجالاً كافياً للمناورة.
إذاً، الأزمة في الدول الغربية هي مزيج من ثلاث مراحل انتقالية وهي التكنولوجية، النظامية والجغرافية. هذه المراحل تعتبر صعبة للغاية لهذه الدول لأن لا شيء يعمل كما كان في السابق. لذلك إن محاولة الجذب نحو الحالة الشعوبية هي أفضل وسيلة لانطواء الدول على نفسها عن هذه الاضطرابات، وخصوصاً عندما لا تتقن سبل العلاج. إن انتخاب ترامب، أو محاولة إغراق أوروبا في الحالة الشعبوية يعكس الواقع الانطوائي الذي يصاحب في مثل هذه الحالة. من وجهة نظري، إن أوروبا حققت أداء جيداً في مقاومة هذه الأزمة إلى الآن.