عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، يسرح خيال معظم الناس نحو أمور مشوّقة ومثيرة. يحلمون بقراءة أفكار الآخرين، بالسيارات الطائرة، بزرع شرائح في أدمغة الناس لجعلهم أذكى، بروبوتات تقوم بعمليات جراحية معقدة، بالخلود السيبراني والقدرة على تحميل أدمغة البشر مثلما ننقل الملفات عن الكمبيوتر.
بعد هذه الأفكار ــ التي لم يعد بالإمكان وصفها بالخيالية لأنه يجري العمل على تحقيقها ــ يصبح الحديث عن الذكاء الاصطناعي في قطاع الزراعة أمراً مملاً بالنسبة إلى الكثيرين، لكن ليتذكر هؤلاء أنّ الزراعة تعني الغذاء، أبرز العناصر المهمة لاستمرار حياة البشر. وليتذكروا أن هناك أشخاصاً يموتون بسبب الجوع، وليضعوا نصب أعينهم رقماً مثيراً: عام 2030 سيصل عدد سكان العالم إلى 8.5 مليارات نسمة، و9.7 مليارات نسمة عام 2050، وفق منظمة الأمم المتحدة. فمن سيطعمهم؟ الإجابة قد تكون: الذكاء الاصطناعي.

كشف أمراض النباتات بالصور

أحدث التقنيات التي تم تطويرها أخيراً هي برنامج ذكاء اصطناعي على الهواتف الذكية يمكنه كشف الأمراض بدقة تقارب الـ 100% في نبتة الكاسافا بمجرد التقاط صورة لأوراق النبتة. نبتة الكاسافا هي نبتة تشبه البطاطا الحلوة يُطلق عليها تسمية محصول الفقراء كونها المحصول الأكثر نمواً في العالم وتوفر الغذاء الأساسي لما يقدر بنحو 800 مليون شخص، لأنها واحد من المحاصيل الأساسية القليلة التي يمكن أن تنتج بكفاءة على نطاق صغير وفي المناطق الهامشية ذات التربة الرديئة.
يشرح الباحثون في ورقتهم البحثية أنّ الكاسافا هي ثالث أكبر مصدر للكربوهيدرات للأغذية البشرية في العالم، لكنها ضعيفة تجاه الأمراض الفيروسية التي تهدد بزعزعة الأمن الغذائي في جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى، لذلك كان هناك حاجة إلى أساليب جديدة للكشف عن مرض الكاسافا لدعم تحسين الرقابة، التي من شأنها منع هذه الأزمة. لذلك عمد هؤلاء الى تطوير برنامج ذكاء اصطناعي للتعرف إلى الصور يمكن أن يكشف الأمراض بالاستناد الى صور أوراق النبتة، وقد استخدموا تقنية تعرف باسم نقل التعلم لإعادة تدريب الشبكة العصبية القائمة على التعرف إلى الصور باستخدام عدد قليل من الصور الجديدة التي التقطت في تنزانيا. مع تطبيق عملية نقل التعلم لتدريب الشبكة العصبية، حدد الباحثون ثلاثة أمراض ونوعين من الأضرار الناجمة عن الآفات بدقة عالية. المميز أيضاً في هذا البرنامج هو أنه صغير بما فيه الكفاية لتحميله وتشغيله على الهاتف الذكي، ولا يحتاج إرسال البيانات إلى سحابة للمعالجة.

تم تطوير برنامج
ذكاء اصطناعي يمكنه كشف الأمراض بدقة تقارب الـ 100% في
نبتة الكاسافا
برأي الباحثين، هذا البرنامج يوفر استراتيجية سريعة وسهلة، وبأسعار معقولة للكشف عن الأمراض النباتية الرقمية، لأن إدارة الكشف عن انتشار أمراض الكاسافا، وفق ورقة البحث، تتطلب التعرف المبكر إلى المرض، وفي حين تعتمد المناهج التقليدية لتحديد الأمراض على دعم منظمات الإرشاد الزراعي، فإن هذه المناهج محدودة في البلدان ذات القدرات السوقية والبنية التحتية البشرية المنخفضة، وهي مكلفة في التوسع. لذلك يرى هؤلاء في تكنولوجيات النفاذ إلى الإنترنت والهواتف الذكية وتكنولوجيا المركبات بدون طيار أدوات جديدة للكشف عن الأمراض النباتية في الميدان استناداً إلى التعرف الآلي الى الصور الذي يمكن أن يساعد في الكشف المبكر على نطاق واسع.
تقنيات كثيرة يتم تطويرها لتحسين المحاصيل الزراعية، وفي السنوات القليلة القادمة ستصبح أجهزة الاستشعار والطائرات من دون طيار والروبوتات منتشرة في عدد كبير من الحقول الزراعية لتحليل البيئة المحيطة والمساعدة في اتخاذ القرارات الملائمة.

مزارع المستقبل… طائرة

تعتبر الطائرات من دون طيار من أبرز التقنيات التي تساهم في أتمتة الزراعة في مختلف المجالات من: تحليل التربة، الزرع، الرش، المراقبة، الري والتقييم، وهي تمثل طريقة جديدة لجمع البيانات على المستوى الميداني ومعالجتها في الوقت الحقيقي.
يوجد اليوم الكثير من الطائرات الصغيرة الزراعية التي تقوم برسم خرائط دقيقة للأراضي لتحليل التربة وتخطيط أنماط زراعة البذور. تشرح المجلة الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أنه تم تطوير طائرات من دون طيار تقوم بزراعة الأراضي من خلال نظم تطلق البذور فوق الأرض بدقة، ما يخفف وقت الزراعة وتكلفتها، إضافة إلى رش المحاصيل بالاعتماد على التقنيات المتوفرة في الطائرة من قياس المسافات، الموجات فوق الصوتية… بحيث تعدّل هذه الطائرات ارتفاعها بما يمكنها من مسح الأرض وضخ الكمية المناسبة من الأدوية. كما تعتمد هذه الطائرات على مجسات متعددة الأطياف أو حرارية تسمح بتحديد أي أجزاء من الحقل جافة لريّها، ولاحقاً بمجرد نمو المحصول، تسمح الطائرات من دون طيار بحساب مؤشر الغطاء النباتي، الذي يصف الكثافة النسبية وصحة المحصول، ويظهر توقيع الحرارة، وكمية الطاقة أو الحرارة التي تنبعث من المحصول. مستقبل الطائرات من دون طيار في الزراعة يتجه نحو أسراب منها تحوم فوق الأراضي الزراعية بشكل مستقل لترصد جميع التفاصيل وتعالجها من تلقاء نفسها.

أجهزة الاستشعار الذكية: رصد كل شيء

تتطلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي كمية هائلة من البيانات عبر السنة لتدريب الخوارزميات ولتتمكن من تحديد أنماط ومعالجتها. فهذه البيانات هي التي تمكّن الخوارزميات من تحليل بيئة النباتات لاتخاذ القرارات الملائمة لتحسين الإنتاج. لذلك يجب رصد كل شيء من: الطقس، التربة، المياه والجفاف… الخوارزميات اليوم تقوم بتحويل أرشيف سنوات كثيرة من مراقبة الطقس إلى توقعات أكثر تطوراً. يمكن قياس المطر والرطوبة والرياح ودرجة الحرارة بشكل أكثر دقة باستخدام هذه النماذج المعقدة والمحاكاة. نظم الري الآلي باتت مصممة للاستفادة من التعلم الآلي في الوقت الحقيقي للحفاظ على ظروف التربة المطلوبة باستمرار لزيادة متوسط الحصاد. كذلك فإن نظام تحديد المواقع العالمي وأجهزة الاستشعار الدقيقة تساعد في الزراعة، حيث إن كل محصول يتطلب مستوى مختلفاً من الاهتمام والرعاية، ولهذا السبب فإن تحديد المحاصيل التي تعاني من الجفاف أو الحشرات أو نقص المعادن مهم جداً للمزارعين. وبدلاً من الاعتماد على القاعدة العامة للجميع، بات بإمكان كل مزارع أن يرى حاجات زرعه ومتطلباته بما يناسب المحيط الموجودة فيه.

روبوتات وتراكتورات ذكية

يتحضر الجميع للسيارات الذاتية القيادة… وكذلك المزارعون! فبعض الشركات اليوم تحضّر جرارات زراعية أو "تراكتورات" ذاتية القيادة أيضاً من خلال برمجيات متطورة وأجهزة استشعار ورادارات ونظم تحديد المواقع. هكذا، ستقوم هذه الآلات بفلاحة مساحات أكبر من الأرض، ويتوقع العديد من الشركات العاملة في هذا المجال أنّ هذه الجرارات ستصبح متوفرة قريباً جداً.
الحصاد أيضاً سيكون بأيدي الروبوتات، إذ يجري العمل على تطوير روبوتات مختلفة تقوم بمهمة قطف الزرع، مثل الروبوت الذي طورته شركة abundant robotics لقطف التفاح الذي يستخدم الرؤية الحاسوبية للتعرف إلى التفاحة، ومن ثم يوجه نظام شفط نحو التفاحة لقطفها. Vision Robotics طورت أيضاً روبوتين لقطف الثمار. الأول يقوم ببناء خريطة ثلاثية الأبعاد للشجر باستخدام الرؤية الحاسوبية، فيما يقوم الثاني بقطفها باستخدام أذرعة متعددة. كذلك يجري تطوير روبوتات مختصة بإزالة الأعشاب الضارة مثل شركة ecoRobotix السويسرية الذي يستخدم روبوتها (لا يزال قيد التطوير) نظام تحديد المواقع وأجهزة الاستشعار للقضاء على الأعشاب الضارة بدقة. ويمكن أن يتتبع صفوف المحاصيل والكشف عن الأعشاب الضارة بدقة 95%. تقول الشركة إن هذا الروبوت يمكن أن يقلل من استخدام المبيدات، كما بإمكانه العمل مدة 12 ساعة على الطاقة الشمسية.
هكذا سيكون القطاع الزراعي رائداً في ثورة الروبوتات والذكاء الاصطناعي، وخاصة مع تراجع العمالة في هذا القطاع. بالطبع، ستساعد التكنولوجيا على تحسين المحاصيل إن كان من ناحية النوعية أو كمية الإنتاج، إلّا أنّه يجب التنبه إلى طريقة توزيع هذه التكنولوجيا التي على الأغلب ستكون متاحة لكبار المزارعين والشركات، ما سيساهم في تعزيز تركز الثروات في أيديهم وتدمير آلاف الوظائف التي تعتمد على القطاع الزراعي من خلال استبدال العمالة بالروبوتات. سيخسر المزارعون الصغار أراضيهم نظراً إلى انعدام القدرة على المنافسة وسيزداد النزوح إلى المدن. سابقاً، كان الأقوى من يمتلك الموارد الطبيعية، اليوم الأقوى هو من يمتلك المعلومات والتكنولوجيات المتطورة، والتوجه الاقتصادي لهذه الثورة التكنولوجية واضح: تركيز الثروات، تدمير الوظائف والقضاء على الطبقة الوسطى.

* للمشاركة في صفحة تكنولوجيا التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]