طوّرت المؤسسات التربوية في لبنان مقاربتها لدمج التكنولوجيا بالتعليم على مراحل عدّة، حيث سادت مفاهيم وتصوّرات خاصة بكل مرحلة، والمؤسف أن هذا التطوير لم يكن ناتجاً من سيرورة نضج طبيعيّة باتجاه موضوع ما، بقدر ما كان تأثّراً بتمويل وهبات الشركات الكبرى والتسويق لها ولمشاريعها.فعلى سبيل المثال بين عامي 2004 و2008 كانت مقاربات الدمج متأثرة كثيراً بمنتجات «مايكروسوفت» وبرامجها وشبكة «PIL» المعدّة لإعداد المعلمين وفق هذه الرؤية.

وبين عامي 2009 و2014 تقزّم مفهوم دمج التكنولوجيا بالتعليم إلى حدود تشغيل برمجية «Activinspire»، فتركّز كل تدريب المعلّمين في حينها على هذا البرنامج المتواضع، ونَحَت الإدارات المدرسية لتلزم المعلمين بتحضير دروس إلكترونية على هذا البرنامج، وقد صادفتُ الكثير من المعلمين الذين يبحثون عمّن يعدّ لهم دروسهم تحت وطأة تهديد إدارتهم لهم. في هذه المرحلة تحديداً يمكن القول إنّ جريمة ارتكبت بحقّ المعلمين حين طلب منهم أن يكونوا مصمّمين ومؤلفين، مع تدريب تقني متواضع جداً من دون أي خلفية أو رؤية بيداغوجية.
بين عامي 2012 و2016 علا صوت اللوحات الإلكترونية (mobile learning) الذي يعتمد على خزانة متحركة تحتوي على أجهزة لوحية ونظام إدارة تعلّم (LMS) لإدارة هذه الأجهزة.

كَشَف إدماج التكنولوجيا عورات الإعداد التربوي والأكاديمي للمعلّمين

مرّة جديدة وُضع المعلّم أمام قدره حيث تبدّل المفهوم في ليلة وضحاها من التعلّم الجمعي (collective learning) إلى التعلّم الفارقي (differentiated learning)، وأطربنا منظّرو التكنولوجيا بفكرة «BYOD» أو «أحضر جهازك معك» في حين كان همُّ كل النظّار في المدارس مصادرة هواتف التلامذة التي تشوّش على عمليّة تعلمهم.
هنا الواقعة كانت كارثيّة للمعلّم، حيث أنّه وضع أمام وضعية تعليم متمازج (Blended learning) متقدّمة جداً دفعة واحدة من دون تدرّج. أعطته التكنولوجيا إمكانات عدة لم يكن يخطّط لها في عمليّاته السابقة، وليس سهلاً عليه تغيير ممارسته التعليمية التي اعتاد عليها لسنوات خلت، ومرة جديدة كان التأهيل تقنياً على تشغيل الأجهزة والبرامج ولم يجر التطرق إلى التأهيل البيداغوجي المتناسب مع هذه الوضعية الجديدة.
من عام 2013 وصعوداً علا صوت «الروبوت التعليمي»، وعلا معه صوت STEM والـ STEAM (دمج الرياضيات والتكنولوجيا والهندسة والعلوم في مشروع واحد).
طبعاً الفكرة رائعة بل مثالية من الزاوية التربوية، ولكنها من دون سياق تفقد كل خصائصها. ومع تحفّظي على تقييم وضعيّة «الروبوت التعليمي» بهذه العجالة (أتركه لمقال آخر)، إلّا أنّ ما ألاحظه من مشاهدتي في المدارس المختلفة أن الروبوت التعليمي اليوم بات أندية يخفّ فيها حضور المفاهيم العلميّة لصالح المنافسات المدرسية في البطولات المحلية والعربية، حتى تكاد تكون المنافسة بين المدربين وليس بين التلامذة.
ما نحاول قوله في هذا الاستعراض السريع والمكثّف هو أنّ دمج التكنولوجيا في التعليم يحتاج إلى تضافر عدّة عناصر حتى ينجح، واحدة من أهم هذه العناصر هي عدم وضع العربة أمام الحصان. العربة هنا هي الأجهزة الإلكترونيّة والبرامج والمنصّات الرقميّة والكتب الرقميّة، والحصان هو المعلّم. كل المحاولات السابقة كانت تتأثر بالضغط الإعلامي والتسويقي للشركات التكنولوجيّة، فتذهب للاستثمار من دون أن تكمل شروط النجاح وأوّلها وأولاها تأهيل المعلمين. يبيّن إطار عمل «TPACK» ثلاثة مجالات لدمج التكنولوجيا في التعليم وهي: مجال معرفة المحتوى ومجال المعرفة التربوية ومجال المعرفة التقنية. تتضافر هذه المجلات الثلاثة في ما بينها، ليحدّد المعلّم المسلّط على محتوى مادته ماذا يريد أن يعلّم (مفهوم صعب، مهارات، قوانين...) ثم يحدّد كيف سيعلّم هذا المحتوى (طرائق، وضعيات تعليميّة، ...) ثم يحدّد التقنيات والبرامج المساعدة له في التوضيح والشرح وزيادة نسبة التعلّم على حساب التعليم.
نلاحظ من هذا الإطار أن التقنيّة هي عنصر من ثلاثة، وافتراض أن عنصري معرفة المحتوى والمعرفة التربوية متحقّقة غير صحيح، فالتقييم التكويني كمثال بسيط لا يتم تفعيله بمجرّد توفر أجهزة التصويت (RS) ما لم يكن المعلّم على دراية بأهميّة هذا النوع من التقييم للتلامذة والمعلمين في آن، ومدى تأثيره على تعلّم التلامذة وتحقّق الأهداف.
ويبيّن نموذج «SAMR» مستويات مهارة المعلّم في توظيف التكنولوجيا (انظر الرسم المحاذي).
فإذا ما أمعنا النظر في هذا النموذج، سنلاحظ أن معظم معلّمينا ما زالوا في مستوى الاستبدال أو الزيادة في أحسن الأحوال، أي أننا نكتب على اللوح التفاعلي بدل اللوح الأبيض، نستبدل مجسم أعضاء الإنسان بآخر ثلاثي الأبعاد (هذه نكسة تربوية بالمناسبة)، ويمكن اعتبار هذا النموذج مؤشراً مهماً لمديري ومشرفي المؤسسات التربويّة ليحدّدوا أين هم اليوم في مسار دمج التكنولوجيا في التعليم، وتذخر الأدبيات التربوية بأمثلة من مختلف المواد حول كل مستوى في نموذج «SAMR» لمن يرغب بالمزيد من الاطلاع.
كَشَف إدماج التكنولوجيا عورات الإعداد التربوي والأكاديمي للمعلّمين في لبنان، وإدخال التكنولوجيا (الألواح التفاعلية والعروض التقديمية PPT خصوصاً) زاد من فرص العرض على حساب التقصّي، ومن فرص التعليم على حساب التعلّم. وهو خلاف المذاهب التربوية الحديثة كافة.
حَرَفَت التكنولوجيا نظر المعلّمين نحو أنشطة تفاعليّة سطحيّة، فبدل أن يكون النشاط هو نشاط ذهني وتعمّق فكري للإجابة على أسئلة عابرة، اقتصر التفاعل على معزّزات خارجية ونشاط جسدي محدود، وإبهار يتضاءل مفعوله تدريجياً مع تعوّد التلميذ على هذا الوافد الجديد.
في مقالات مقبلة سوف نسلط الضوء على عناصر جديدة للإدماج الناجح والفعّال للتكنولوجيا، حتى ننجح في الصعود نحو مستويات التعديل وإعادة التصميم بحسب نموذج «SAMR».

للتواصل مع الكاتب: [email protected]

*طالب دكتوراه في الجامعة اليسوعية