باريس | حين وصل إلى باريس في عام 1960 قادماً من موطنه الأصلي تونس، اعتقد عز الدين عليا (الصورة) أنّ الحظ ابتسم له سريعاً. فقد اختير آنذاك، وهو في الثانية والعشرين، من قبل واحدة من أعرق دور الموضة الباريسية «ديور» للعمل إلى جانب العملاق إيف سان لوران الذي كان قد تولى الإدارة الفنية لهذه الدار، إثر رحيل مؤسسها كريسيان ديور.
لكن الفرحة لم تكتمل، إذ لم تكد تمضي سوى خمسة أيام فقط على اختياره من قبل سان لوران، من بين عشرات المصممين الشباب، ليكون مساعده الأثير، حتى عصفت العنصرية بحلم الشاب التونسي بعدما وُشي به لأنّه لم يكن يملك أوراق إقامة رسمية في فرنسا، مما أرغم دار «ديور» على فصله من العمل. هنا، وجد عز الدين نفسه، كأي مهاجر غير شرعي، مضطراً لممارسة مهن صغيرة لكسب لقمة العيش، في انتظار أن يجد فرصة مواتية لتحقيق حلمه في اقتحام عالم الموضة. توجّب عليه أن ينتظر خمس سنوات أخرى، قبل أن تلتفت بعض الدور الناشئة، كـ «غاي لاروش» و«تييري موغلر» إلى موهبته، وتعطيه الفرصة التي كانت يتحيّنها لولوج عالم الموضة الباريسية.
تنبأ تييري موغلر بأن هذا الشاب التونسي «القصير القامة والعملاق بموهبته» سيكون له شأن، فشجّعه على فتح محترف خياطة خاص به في شارع «بيلشاس» الباريسي، في منتصف السبعينيات. ولم تكد تمضي خمسة أعوام حتى تحوّل ذلك المحترف الصغير إلى دار موضة مرموقة تحمل اسم عز الدين عليا. لم يكن سهلاً على مصمم عربي أن يشق طريقه في فرنسا، التي كانت آنذاك ما زالت لم تتعاف من جراح حرب الجزائر. لكن أضواء الشهرة تركزت على عز الدين عليا منذ عروضه الأولى، وبالأخص بفضل فستانه الأسود الشهير المصنوع من القماش ذي الثنيات المتموّجة. فقد أُولعت به أجيال متتالية من النساء، بدءاً من المغنية الفرنسية أرليتي التي تبنّته منذ طرحه للمرّة الأولى في عام 1980، وصولاً إلى السيدة الأميركية الأولى السابقة ميشال أوباما التي أدخلته إلى البيت الأبيض عام 2008.
أحدثت تصاميم عز الدين عليا ثورة حقيقية في عالم الموضة الباريسية منذ الثمانينيات. لم يكتف بالمراهنة على المغايرة على صعيد التصاميم الفنية عبر قصات أزيائه المصقولة الملاصقة لتضاريس الجسم، وقد باتت سريعاً السمة الغالبة للموضة الباريسية. بل جازف بخيارات مخالفة للمألوف أيضاً، على صعيد اختيار عارضاته. بالرغم من أن أشهر نجمات العروض آنذاك (ناعومي كامبل، وليندا إيفانجيلستا) كن يتزاحمن للظفر بشرف ارتداء أزيائه، إلا أنّه أصرّ أن تحمل عارضتاه الأثيرتان مواصفات مغايرة تماماً لما كان سائداً في عالم الموضة الباريسية: الأولى عربية ذات ملامح مغاربية بارزة، وهي فريدة خالفة التي جعل منها عز الدين عليا أوّل عارضة أزياء عربية تصل إلى المصاف العالمي الأول. أما العارضة الثانية، فلم تكن سوى المغنية الأميركية غريس جونز، التي تشتهر بمواصفاتها الجسدية الأقرب إلى رياضيي كمال الأجسام منها إلى عارضات الأزياء! القائمة الطويلة للنجمات اللواتي ارتدين تصاميم بتوقيعه تشمل: ريهانا، وليدي غاغا، ومادونا، وكيتي هولمز، وفيكتوريا بيكهام، وتشارليز ثيرون، وتينا تيرنر...
إلى حين رحيله المفاجئ، أوّل من أمس، إثر عثرة تعرّض لها قبل أسبوعين وأدخلته غيبوبة لم يفق منها، ظل عز الدين عليا حريصاً على أن يكون دوماً «الابن المشاغب للموضة الباريسية». تحدى هيمنة غرفة الخياطة الباريسية التي تفرض على المصممين إقامة عروضهم في مواعيد موسمية محدّدة، بينما كان يصرّ على ألا يقدّم عروضه إلا حين تكتمل. مما أرغمه على تقديم بعضها في بيته الشخصي وليس في مكان عام، للإفلات من رقابة غرفة الموضة. كما ظل حتى وفاته فخوراً بتحديه للـ «إستابلشمنت» التجاري الذي يتحكّم بالموضة الباريسية، ويردّد باستمرار أنّه لم يقم ـــ طوال مسيرته التي امتدت لأكثر من نصف قرن ـــ بشراء أي إعلان للترويج لأزيائه، مكتفياً بحب ووفاء عاشقات الموضة اللواتي يخترن أزياءه بشكل تلقائي.