ما يقوم به الحاكم الفعلي في المملكة السعودية محمد بن سلمان لا يتطلب جهداً ذهنياً كبيراً؛ فعملية التفتيت الممنهجة لركائز الحكم لا تؤسّس لدولة جديدة، مهما كان الفريق المسؤول عن إنتاجها خلّاقاً.
لا بد من إعادة تركيب المشهد التاريخي لفهم المسار التفكيكي الذي تسلكه السعودية. ففي الحادي والعشرين من أيلول سنة 1923، أعلن قيام المملكة بعد اكتمال سلسلة «الفتوحات» التي قام بها عبد العزيز وجيشه العقائدي «إخوان من طاع الله» في أرجاء متفرقة من الجزيرة العربية. وفيما نجح «الاخوان» في إنجاب الدولة، كان عليهم التلاشي في مشروعها، بعد أن أنجزوا مهمة إنتاج الدولة وليس عليهم تسييرها، ولذلك تعرّضوا لضربة قاصمة في معركة السبلة سنة 1929، أنهت وجودهم التنظيمي والوظيفي.
أبقى الملك عبد العزيز، مؤسّس المملكة، على ثنائية: آل سعود، كرمز للسلطة السياسية، وآل الشيخ كرمز للسلطة الدينية، وبدت الشراكة، رغم اختلالها المتسلسل بمرور الوقت، عنصر توحيد في مركز السلطة، وإن كانت هي غير ذلك خارجه دون أدنى شك؛ فآل سعود دائماً كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم من نجد، الأهل، والمأوى، والقاعدة الشعبية، وأن المناطق الأخرى التي سيطروا عليها بقوة السلاح لن تغفر لهم ما اقترفوه بحق أبنائها قتلاً، ونهباً، وحرماناً، وتهميشاً. وأيضاً، فإن الأيديولوجية الوهابية التي شرعنت السياسات الاقتلاعية للنظام السعودي على قاعدة تكفير المناطق الأخرى، وإباحة نهبها، وقتل أهلها، ليست أيديولوجية وطنية، بل هي «أيديولوجية الفتح»، وبالتالي تفتقر إلى خاصية التعايش مع باقي المعتقدات أو أن تكون هي ذاتها حائزة الإجماع الوطني.

المملكة السعودية نشأت على خلفية
احتكار المجال العام

على ما يبدو، فإن العهد الجديد الذي يديره محمد بن سلمان تحت إشراف والده، لم يحسن قراءة تاريخ تكوين المملكة السعودية. فهذه المملكة وإن أخذت شكل الدولة، فإنها لا تزال مندكة في الشكل المملوكي للسلطة، أي إنها سلطة في هيئة دولة، وإن خصائص الدولة الوطنية لا تزال بعيدة المنال. إن المحاولات اليائسة التي قام بها النظام السعودي منذ 1996 على خلفية ضعف الشعور الوطني، من خلال استحداث منهاج «التربية الوطنية»، ولد وفشل في لحظة واحدة، لأن اللجنة المكلّفة بإعداد المنهاج كانت أسيرة لثقافة المنتصر في تعميم رؤيته، هويته، عقيدته، بل حتى الذاكرة الوطنية أرادها أن تتشكل من خلال تاريخ الحروب التي خاضها السعوديون خلال قرون ثلاثة. وعليه، جاءت النتيجة عكسية، وهذا ما لحظه الملك عبدالله، حين كان ولياً للعهد، سنة 2004 في لقائه مع المعلّمين في منطقة الرياض، بأنه استمع الى شكاوى كثيرة ولكنه لم يلحظ الشعور الوطني، إلى الحد الذي تحوّلت مفردة «الوطن» ومتوالياتها الى سؤال القلق الذي ينتاب القيادة السعودية. فحين زار وفد من الطائفة الشيعية الملك عبدالله بادرهم على الفور: أهم شيء الوطن... أهم شيء الوطن. زيادة جرعة «الوطنيات» في التداول الثقافي والإعلامي اليوم كانت تأتي في مرحلة شعرت فيها السعودية بالتهديد، لا سيما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، واستهدافها من قبل الحليف الأميركي بأنها «بؤرة الشر»، بحسب وصف أحد المشاركين في جلسة استماع في البنتاغون.
ما نريد قوله، إن قدرة السعودية على توليد ديناميات لحفظ الوحدة الداخلية، أو بالأحرى وحدة السلطة، كانت دائماً تواجه بنقائضها. ولذلك، بقيت وحدة السلطة دائماً متوقّفة على قسمة المجتمع.
إن الإصرار على تجاهل برنامج الاندماج الوطني كمعبر إلزامي نحو بناء الدولة الوطنية يبطن خطر تفكك الكيان، وليس في ذلك سر. وإن الوصفة السحرية لحفظ الوحدة الكيانية تتطلب التخلي عن التملك الاحتكاري للسلطة وليس في ذلك معجزة.
في الخلاصات، إن المملكة السعودية نشأت على خلفية احتكار المجال العام من قبل الأمراء ورجال الدين، وكانت منطقة نجد، أو المنطقة الوسطى وفق التقسيم الإداري، تحتكر ما يربو على 75% من الجهاز البيروقراطي، فيما تتقاسم المناطق الأخرى النسبة الباقية بدرجات متفاوتة.
ورغم تفوّق العنصر النجدي في الجهاز البيروقراطي ولا يزال، وهو تفوّق يستند إلى حقائق ما بعد حروب «الفتح» التي خاضها عبد العزيز والحلفاء من قبائل متصاهرة أو متحالفة مع آل سعود، وبالتالي هو نتاج وضعية «المنتصر» الذي تُوّج بإعلان المملكة في 193، ثمة وقائع انقلابية شهدناها في عهد سلمان بن عبد العزيز، وأدارها ابنه، ولي العهد والحاكم الفعلي، لجهة تعزيز سلطته، وجمع خيوط لعبة الحكم بيده. أسبغ عليها البعض نعت «ثورة»، وهي بالفعل كذلك كونها قوّضت الجذور التأسيسية للمملكة السعودية، بصرف النظر عن مآلات هذه الثورة التي قد تفضي إلى نتائج أخرى غير التي أرادها قائدها، أو مدبّرها، أو من خطّط لها، الذي قد لا يكون سعودياً بالضرورة.
فهل ما يجري في السعودية هو تغيير في شكل الحكم أم هو تحوّل بنيوي انقلابي على السمات الكيانية للدولة السعودية.
في المعطيات، نحن أمام متغيرات في معادلة السلطة:
أ ـ على مستوى العائلة المالكة: أنهى سلمان ثنائية السلطة التي كانت قائمة منذ 9 تشرين الثاني 1953 حتى 21 حزيران 2017، أي منذ وفاة الملك عبد العزيز حتى عشية إعفاء الأمير محمد بن نايف، ودخلنا في مرحلة التفرّد الاحتكاري للسلطة في بيت سلمان.
ب ـ على مستوى التحالف التاريخي بين الديني والسياسي الذي نشأ منذ عام 1744 بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث يلفظ التحالف أنفاسه الأخيرة منذ قرر محمد بن سلمان اعتناق الليبرالية الاجتماعية المصادمة لمعتقدات التيار الديني الوهابي، وتالياً كسر احتكار المؤسسة الدينية للدور التوجيهي العام، وصولاً إلى إفقاد المؤسسة الدينية سلطاتها التقليدية.
إن حملة الاعتقالات الواسعة التي طاولت التيار الديني المتصاهر مع الإخوان المسلمين حملت في طيّاتها رسالة ليس الى جماعة الإخوان فحسب، بل وبدرجة أساسية إلى المؤسسة الدينية التي تخسر رأسمالها الشعبي الذي يتأمّن من خلال وجود تيار إسلامي جماهيري يتفاعل مع قضايا المجتمع ويتقاطع مع نظائره خارج الحدود.
في التداعيات، إن حملة الاعتقالات والتدابير الانفتاحية اجتماعياً تشكّل تهديداً جدّياً لسلطة المؤسسة الدينية بوصفهاً شريكاً، إلى حدّ ما، مع المؤسسة السياسية. بطبيعة الحال، فإن إفقاد المؤسسة الدينية سلطتها، لا يعني مطلقاً، على الأقل في المدى المنظور، التخلي عن وظيفتها. بكلمات أخرى، إن تناقض الفتوى الصادرة عن المفتي وهيئة كبار العلماء في القضايا العامة، دليل واضح على أن الدين بات وظيفة وليس سلطة، وهذا في حدّ ذاته بداية أفول المؤسسة الدينية.
ج ـ الانتقال من الاقتصاد النفطي/ الريعي إلى الاستثمار بما يشتمل على نظام ضرائبي مرهق لا يعني سوى تغيير جوهر العلاقة بين المجتمع والدولة. إن رؤية السعودية 2030 هي خطة تحوّل مجتمعي تستوعب مجالاته كافة. على السطح يبرز ملفا الشباب والمرأة، في سياق خطة تعويض خسارة التحالفات التقليدية بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية، ولكن ما يسمى خطة التحوّل الوطني سوف تمتد الى الجذور المجتمعية، والقيمية، وفي النتائج سوف يتواجه العهد القادم مع المرتكزات الأصلية للدولة السعودية، وهي مصادر مشروعيتها التاريخية.
خارجياً نقف أمام معطيات ثلاثة كبرى:
ـ إعادة إنتاج الدور الوظيفي للدولة السعودية ضمن الاستراتيجية الأميركية الكونية ولكن بنسخة متطوّرة.
ـ إعادة تشكيل تحالفات إقليمية يكون فيها التطبيع مع الكيان الإسرائيلي محورها الرئيس.
ـ تصعيد المواجهة مع إيران ومحورها إلى أقصى مدى، وإن تطلب التلويح بالصدام العسكري الواسع أو حتى الذهاب فيه إلى النهاية.
السؤال: هل التحوّلات البنيوية التي يشهدها عهد محمد بن سلمان قابلة للصمود طويلاً، تأسيساً على أن ثمة آليات لانتقال السلطة وتماسكها بدأت تفقدها مفعولها الوظيفي، مثل العائلة المالكة والمؤسسة الدينية، فما هي يا ترى الآليات الجديدة؟
هل هذه الآليات مصمّمة على أساس التقدير العمري لمحمد بن سلمان، وكما يروّج بأنه سوف يبقى على رأس الحكم 50 سنة؟
في تقديري، إن من المجازفة بمكان التعويل على تقديرات كهذه، وإن كان من غير الواضح حتى اللحظة وجود آليات بديلة لانتقال السلطة، وكأن هناك من يريد تعطيل حركة التاريخ.
إن بقاء الوضع كما هو عليه، أي مواصلة الثورة بالطريقة التي يقودها محمد بن سلمان، بما تنطوي عليه من تفتيت البنى التقليدية التي قامت عليها المملكة السعودية، يضعنا أمام انكشاف غير مسبوق، ومملكة بلا نظام مناعي يحمي نواتها الصلبة، أو يدرأ عنها خطر الفوضى والتفكك.