لا تزال مصر تلملم جراحها، بعد المذبحة المروّعة، التي استهدفت المصلّين في مسجد بلدة الروضة السيناوية، والتي راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى، في هجوم غير مسبوق في تاريخ المواجهة مع الحركات الإرهابية، إن لجهة الاستهداف أو العدد الهائل من الضحايا الذي خلّفه.
ومع أنّ الترجيحات الأمنية بشأن مسؤولية «ولاية سيناء» – الفرع المصري لتنظيم «داعش» – عن العملية الإرهابية، تقترب من اليقين، إلا أن التفسيرات المرتبطة بأهداف الهجوم وملابساته وتداعياته تذهب في أكثر من اتجاه.
التحليل الأكثر تفاؤلاً يميل إلى ترداد فكرة يُجمع عليها المحللون الأمنيّون في مصر، وهي أن الهجوم الإرهابي، بالشكل الذي وقع فيه، يعكس «تخبّطاً» و«إرباكاً» في صفوف الإرهابيين، بعد سلسلة الضربات التي وجهتها لهم القوات المسلحة المصرية، خلال الفترة الماضية.
وبالرغم من أنّ هذه المقولة تنطوي على بعض الواقعية، إذا ما نظرنا إلى التراجع الملحوظ في العمليات الإرهابية على الجبهة السيناوية، كمّاً ونوعاً، خلال الأشهر الماضية، إلا أن العزف عليها، في كل مرّة يهتز فيها الأمن المصري بضربات موجعة، يعرّيها تدريجاً من الصدقية، وخصوصاً أنها تدفع باتجاه تساؤلات حول حِرفية الاستراتيجية المتّبعة لمكافحة الإرهاب في سيناء.
وأمّا التحليلات السياسية، فتذهب في اتجاهات مختلفة، وهي تربط، بمعظمها الهجوم الإرهابي الأخير بسلسلة تطوّرات داخلية وخارجية، دفعت جهات خارجية محدّدة، لإحداث انتكاسة أمنية على هذا القدر من الخطورة، في إطار المحاولات المستمرة لإسقاط الدولة المصرية، قبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية المرتقبة في النصف الأول من عام 2018.

التحليل الأكثر تفاؤلاً يميل إلى ترداد فكرة أن الهجوم يعكس «تخبّطاً» في صفوف الإرهابيين

وعلى هذا الأساس، يوجّه البعض أصابع الاتهام باتجاه تركيا، من خلال الإشارة إلى أن هجوم الروضة ربما أتى رداً على نجاح الاستخبارات العامة المصرية في تفكيك شبكة تخابر تركية قبل أيام، في حين يشير البعض الآخر إلى ترابط بين العملية الإرهابية والاتفاقات التي أبرمتها مصر مع اليونان وقبرص في مجال النفط والغاز، خلال الأسبوع الماضي، والتي يفترض أن تجعل سيناء نقطة أساسية لخطوط الأنابيب.
محللون آخرون، داخل مصر وخارجها، يربطون المذبحة المروّعة بالتحركات الأخيرة للدبلوماسية المصرية في بعض الملفات الإقليمية (المصالحة الفلسطينية، الصراع في سوريا والأزمة السياسية في لبنان...)، والتي أثارت، بنظرهم، انزعاج بعض الأطراف الساعية دوماً إلى تحجيم الدور المصري، وحصره في المشاكل الداخلية.
لكن ثمة عنصراً جوهرياً، لا يمكن تجاهله في مذبحة الروضة، ويتمثل في الهدف الرمزي للهجوم الإرهابي، وهو الحالة الصوفية، بما تشكله من مكوّن أساسي في التراث الديني الذي لطالما أضفى على التديّن في مصر طابعاً خاصاً، وشكّل لسنوات طويلة نموذجاً للإسلام الوسطي، قبل أن تخترقه التيارات المتشددة التي تغرف من الفكر الوهابي المتزمّت.
ومع ذلك، فقد كان لافتاً مستوى التحفظ المصري في استحضار العامل الصوفي، وهو ما تبدّى، بشكل خاص، حين سارعت وزارة الأوقاف، مباشرة بعد الهجوم الإرهابي، إلى إصدار بيان توضيحي، أشارت فيه الى أن المسجد المستهدف يتبع لها، وليس لأي من الطرق الصوفية.
ويمكن تفسير هذا التحفظ، أو حتى تفهّم خلفياته، في أن السلطات تسعى قدر الإمكان إلى تجنّب إضفاء أي طابع «طائفي» على العمليات الإرهابية، وهو ما اتسم به دوماً الخطاب الرسمي في مصر، ولا سيما في مقاربته للعمليات الإرهابية التي طالت الأقباط في الآونة الأخيرة، وذلك بالنظر إلى خصوصيات اجتماعية وسياسية، تجعل تلك المسائل تقارب بحساسية مفرطة، انسجاماً مع الشعار الرسمي المختزل بعبارة «لسنا العراق أو سوريا».
ومع ذلك، من غير المنطقي القفز فوق واقع أن بلدة الروضة، التي سالت فيها دماء ضحايا المذبحة الإرهابية، تسكنها غالبية صوفية، لا بل تعدّ إحدى البؤر الرئيسية للجريرية، وهي إحدى الطرق الصوفية الرئيسية المنتشرة في سيناء منذ عقود، وتعد نقطة استهداف مباشر لـ«الدواعش» الناشطين في شبه الجزيرة المصرية.
واللافت في هذا السياق أنّ التبني الوحيد الذي صدر عن التكفيريين للعملية الإرهابية، وهو عبارة عن بيان بتوقيع «ولاية سيناء – فرع المعلومات»، أشار بشكل صريح إلى الجهة المستهدفة، وهي «تجمع للشيعة من الطرق الصوفية الكفار»، لافتاً إلى أن هؤلاء «متعاونون مع الجيش المصري المرتد والشرطة المصرية الكافرة» للصوفية.
ومع أن خبراء أمنيين ومختصين في شؤون الحركات «الجهادية» شككوا في صحة هذا البيان، إلا أن ثمة إجماعاً في ما بينهم، على أن مذبحة الروضة تحمل بصمات «داعشية»، وخصوصاً بعدما تبرأ منها جناح آخر للإرهاب في سيناء، هو «جند الإسلام» الذي يرتبط أيديولوجياً بتنظيم «القاعدة».
وبرغم ترفّع الأوساط الرسمية والإعلامية المصرية عن التركيز على هذا الاستهداف، فإنّ ثمة أسباباً كثيرة تدفع باتجاه تأكيده.
ولعل تتبعاً سريعاً للهجمات الإرهابية العابرة للحدود، يظهر أن استهداف الطرق الصوفية، بمساجدها ومشايخها ومريديها وأضرحتها، يشكل سلوكاً عاماً لدى التكفيريين، من أفغانستان وباكستان، مروراً بسوريا والعراق، وصولاً إلى تشاد وغيرها.
ولا شك في أن الحالة الصوفية في مصر استشعرت، منذ عقود، الخطر الذي يتهددها من قبل التيارات التكفيرية، والتي اتخذت مراحل متدرّجة، بدأت مع التحوّلات الخطيرة في الحالة الإسلامية العامة، منذ ستينيات القرن المنصرم، مع نشأة التيار التكفيري المتأثر بأفكار «الإخواني» سيّد قطب، وبعد ذلك في السبعينيات حين أخذت التيارات السلفية ذات الفكر الوهابي تتغلغل بشكل سرطاني في المجتمع المصري.
هذا الشعور بالخطر، كان يمكن تلمّسه في أحاديث متفرّقة مع صوفيين، بعد «ثورة 25 يناير» عام 2011، وما تلاها من أحداث أمنية (حيث سُجلت في هذه الفترة حوادث عدّة مرتبطة بعمليات تفجير وتخريب استهدفت الأضرحة، وتهديدات متفرقة طالت حتى مسجد الحسين في قلب القاهرة الفاطمية)؛ ومن ثمّ تطوّرات سياسية أفضت إلى سيطرة «الإخوان المسلمين» والتيار السلفي على حكم البلاد، حتى أواسط عام 2013.
وبدخول سيناء في قلب المعادلة «الداعشية» العابرة للحدود، فإنّ ثمة أسباباً إضافية لكي يشعر الصوفيون بالخطر الوجودي على مستقبلهم، فمن شأن مذبحة الروضة أن تزيد المخاوف من احتمال أن يكون «داعش» قد أعلن حرباً مفتوحة على الصوفية في مصر، من منطلقات أيديولوجية وعقائدية واستراتيجية في آن واحد.
وعلى المستوى العقائدي، فإنّ تنظيم «داعش» يمتلك ما يكفي من مفاهيم دينية ــ وفق تفسيراته الشاذة للإسلام ــ لكي يعبئ إرهابييه لإبادة الصوفيين، في حال رفضوا «الاستتابة».
أما على المستوى التكتيكي/ التنظيمي، فلا شك في أن استهداف الصوفية يأتي في سياق ما يطلق عليه أبو بكر ناجي، المرحلة الأولى من «إدارة التوحش»، والتي يختصرها بمفهوم «الشوكة والنكاية»، والتي تشمل تنفيذ عمليات منظمة ضد «العدو القريب» بدلاً من «العدو البعيد»، بهدف الإرباك والتشتت وإحداث الفوضى، تمهيداً للمرحلة الثانية المتمثلة بـ«إقامة الخلافة الإسلامية».
ومن الثابت أن مرحلة «الشوكة والنكاية» قد سعى «داعش» إلى تنفيذها، في وقت سابق، وأماكن أخرى في مصر، عبر استهدافه الممنهج للأقباط، تزامناً مع سلسلة الانتكاسات التي أخذ يتعرض لها في سوريا والعراق، وهو ما نجحت الدولة المصرية في احتوائه بشكل واضح.
وفي ظل الهزيمة المؤكدة، التي يواجهها «داعش»، بعد التطورات الأخيرة في الميدانين السوري والعراقي، والتي أنهت عملياً «حلم التمكين» لـ«دولة الخلافة»، ثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن مذبحة الروضة، قد يراد منها أن تكون «شوكة ونكاية» في خطة بديلة، لطالما أشار الخبراء المختصون في الشؤون الجهادية إلى احتماليتها، وتتمثل في نقل المعركة إلى الأرض المصرية.
وأمّا على المستوى الاستراتيجي، الذي لا يقتصر على «داعش» وحده، بل يمتد إلى كل التيارات السلفية، فإنّ توجيه ضربات للصوفيين يمثل هدفاً بعيد الأمد للتكفيريين، يتجاوز الساحة المصرية بعينها، ليشمل تهديد وجودهم في كل أنحاء العالم.
هذا الاستهداف ليس جديداً بطبيعة الحال، فالعمليات الإرهابية التي طالت الصوفيين في العالم، خلال السنوات الماضية، لم تكن موجهة تماماً بدوافع عقائدية، وإنما تعود بالأساس إلى تحوّل الصوفية، بحدّ ذاتها، إلى نموذج متجدد للإسلام الوسطي، والحل الشافي المعاد اكتشافه لمشكلة التطرّف، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، وهو ما جعل الغرب يبذل جهوداً كبيرة لدعم الترويج للصوفية بنسخة جديدة تزاوج بين الرومانسية والحداثة في إطار العولمة.
وبالرغم من أن هذه الجهود أثبتت فشلها، بدليل تطوّر الحركات الجهادية المتشددة إلى كيانات أكثر توحشاً وخطراً، إلا أنها لا تزال تشكل رهاناً يمكن البناء عليه في العديد من دول العالم، بما في ذلك مصر، حيث لا تزال الطرق الصوفية تبدي مستوى عالياً من الولاء للسلطات الحاكمة، وهو ما دفع، على سبيل المثال، بعضو مجلس شورى «الجماعة الإسلامية» عاصم عبد الماجد، الذي كان أحد أشهر المقرّبين من النظام «الإخواني»، إلى شن هجوم على الصوفيين، قبل أيام قليلة، متهماً إياهم بأنهم «المخطط الجديد للدولة المصرية لإسقاط تيار الإسلام السياسي تماماً»، ومستخدماً العبارات «الداعشية» ذاتها عبر اتهامهم بـ«عبادة القبور»... وبـ«عبادة مَن في القصور»!





«تركيزنا على محاربة مظاهر الشرك والبدعة»

وضع تنظيم «داعش» الصوفيين في سيناء على رأس قائمة الاستهداف منذ عام على الأقل، وهو ما يمكن رصده من خلال مقابلة منسوبة إلى ما يسمى «أمير مركز الحسبة»، نشرتها مجلة «النبأ» في عددها الثامن والخمسين، الصادر في مطلع كانون الأول عام 2016، أي بعد أيام قليلة على إعدام الشيخ الصوفي سليمان أبو حراز (98 عاماً) بقطع رأسه بعد اختطافه.
في تلك المقابلة، شدد «أمير الحسبة» على أن «تركيزنا الأول ينصب على محاربة مظاهر الشرك والبدعة، ومنها التصوّف والسحر والعرافة والكهانة والغلو في القبور». وكان لافتاً أن «أمير الحسبة» تطرّق، في مقابلته، بتفصيل وإسهاب إلى الحالة الصوفية في سيناء، مشيراً، على وجه الخصوص، إلى الطريقتين العلاويّة الأحمدية والجريرية، مع تشديده على أن الطريقة الثانية، التي تفيد التقديرات غير الرسمية بأنّ معظم ضحايا مذبحة الروضة هم من مريديها، تعدّ «أكثر انتشاراً ونفوذاً»، و«أعظم شركاً وضلالاً» على حد تعبيره.
ولم تفت «أمير الحسبة»، بطبيعة الحال، الإضاءة على التبرير «الشرعي» لقتل الصوفيين، حين حذر من أن «الشرك بالله انتشر في أوساط الطرق (الصوفية) بشكل كبير، حتى هرم عليه الكبار، ونشأ عليه الصغار، فعظمت البلوى، واشتدت المصيبة. فهم يعتقدون النفع والضر في الأموات، ويصرفون لهم شتى أنواع العبادات، كالدعاء والاستغاثة والتوكل والذبح والطواف، واتخذوهم وسائط بينهم وبين الله - سبحانه وتعالى - وكذلك فإنهم يتبعون طواغيتهم وشيوخهم في باطلهم، ويؤدون لهم السمع والطاعة العمياء في كل الأقوال والأفعال».
وعلى نحو أكثر تركيزاً، لفت «أمير الحسبة» إلى أن «أتباع الطريقة الأحمدية يعتقدون الحلول والاتحاد والعياذ بالله، ويقولون إن الله سبحانه (ساكن في كل ساكن ومتحرك في كل متحرك)! تعالى عمّا يقولون علواً كبيراً، يقدّسون ابن عربي والحلاج وغيرهما من أئمة الكفر والضلال»، في حين أن أتباع الطريقة الجريرية هم «أشد شركاً، وهم معروفون بتقديس الأضرحة، والذبح لها، والطواف حولها، ولهذه الطريقة علاقة بدين الرافضة».