يفتتح «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» هذا المساء، في لحظة استثنائيّة، محاصرة بالتحديات… إنّه أول حدث وطني بهذا الحجم منذ اجتاز لبنان الامتحان الصعب، وأثبتت الشرعيّة اللبنانيّة أنّها أهل بالثقة والاحترام، وقادرة على حماية السيادة، واستعادة الثقة الشعبية، واحترام المؤسسات والدستور ودولة القانون، وصيانة الوحدة الأهليّة، ومواجهة الأنواء والأعاصير.
يبقى أن تعود الثقافة كمكوّن أساسي من مكوّنات الهويّة الوطنيّة.
تقام الدورة الحادية والستون من عيد الكتاب البيروتي العريق، وسط مناخات مشجّعة، وظروف مشرّعة على الأمل الحذر. فلنضع جانباً حديث الأزمة، ونحتفل. بيروت كانت وستبقى عاصمة الكتاب العربي، على الرغم من كل المصاعب الاقتصاديّة، والتصحّر الثقافي، وتقلّص الأسواق، والتحديات التكنولوجيّة، وانحسار القرّاء. بيروت ستبقى بيروت، على الرغم من كابوس التعصّب والانغلاق… كابوس تشجّع عليه فتن وحروب أهليّة، وينتشر كالطاعون مع الأفكار الظلاميّة المدعومة من قبل أنظمة إقليميّة ودول عظمى. لقد أثبت الامتحان الوطني الأخير لن يسرق أهل الانحطاط والجاهليّة بيروت، ولن يقوى أحد على شرائها أو مصادرتها أو إسكاتها… وهذا «الانتصار» وحده يستحقّ الاحتفال!
وإذا كانت العاصمة اللبنانيّة متمسّكة بهذه التظاهرة الكبرى التي ينظمها «النادي الثقافي العربي» بالتعاون مع «اتحاد الناشرين اللبنانيين»، فلأنّها تريد أن تبقى عاصمة الكتاب، وعاصمة النهضة، وعاصمة التنوير، وعاصمة العقلانيّة، وحرية الابداع والتفكير والتعبير. وحق المقاومة أيضاً. فالثقافة والفكر والابداع سلاح فتّاك بيد الشعوب، كي تعي حقوقها، وتعتزّ بهويّتها، وتشحذ خيالها، وترتقي إلى مثُلها، وتستعيد روحها، وتبني مستقبلها، وتطلّ على الكون، وتقف بوجه المصالح الاستعماريّة، ومشاريع التفتيت والردّة والانحطاط والاستسلام لإسرائيل.
بيروت كانت وستبقى عاصمة الكتاب العربي. ومعرضها العربي الدولي قبلة لكل أهل صناعة النشر، ولأهل القلم والفكر والإبداع والبحث، ولجمهور القرّاء والاكاديميين الذي ينتظر هذا الموعد، من عام إلى آخر. هذه الدورة سنحتفي بسركون بولص الذي تنشر «دار الجمل» بعض مخطوطاته النادرة، ولنا موعد مع جديد سعدي يوسف. وسنستعيد شبلي الشميل وهالته النهضويّة، ونعيد اكتشاف إسكندر رياشي. وستزورنا مي زيادة التي استوحى واسيني الأعرج روايته الجديدة من سنواتها الصعبة. سنلتقي هدى بركات، ونتلقّف بفرح كتابين لخالدة سعيد، أحدهما، «جرح «المعنى»، دراسة في قصيدة أدونيس العتيدة «مفرد بصيغة الجمع»… وسنتذكّر الراحل بسّام حجّار، الشاعر النادر، والمترجم الفذّ، مع ترجمته لرواية باتريك موديانو «أزهار الخراب» التي نبشت مخطوطها. وسيخيّم طيف الشاعر والمسرحي والصحافي والمثقف التنويري عصام محفوظ، إذ تنشر «دار نلسن» عدداً من الكتب التي تتضمّن مقالاته في مراحل الحرب الأهليّة وباريس، إضافة إلى ترجمته لرواية مارغريت دوراس «الزهرة المستحيّية»، وترجمته التاريخيّة لمسرحيّة صموئيل بيكيت «في انتظار غودو» التي أخرجها شكيب خوري على خشبة «مسرح بيروت» في العام 1967. وأخيراً سنكتشف جيلاً كاملاً من الكتّاب الجدد في الرواية والشعر. كثير من الشعراء الشباب (عن «دار النهضة» وسواها) «سيغزون» معرض الكتاب: إنّها دورة الشعراء الشباب!
هل نذكّر في يوم إفتتاح «مهرجان البيال»، وقد انقشعت الرؤيا في المنطقة، واندحر التكفير، أن الكتاب أساس كل المشاريع النهضويّة المستقبليّة، وأن على الدولة اللبنانية أن تضع في قائمة أهدافها وسياساتها رعاية الفكر، ودعم اقتصاد المعرفة، وصناعة النشر وتحديثها، وضمان الحريّة؟ فليبقَ الكتاب في موقع الصدارة، في قلب حياتنا وسلوكنا وحاجاتنا الحيويّة. ذلك أن شعباً أمّياً هو شعب غير جدير بالحياة. وأمّة لا تقرأ لا تستحق الاحترام، ولا تستطيع أن تحفظ مكانتها تحت الشمس، وأن تبقى شريكةً فاعلة في الحضارة البشرية. أمّة لا تحترم الكتاب وتمنعه وتصادره وتكفّره وتضطهد من يكتبه ويقرأه، أمّة تسجن الكتّاب وتجلد المدوّنين، لا تستطيع أن تصنع نهضة، وتحرر أرضاً، وتستعيد حقّاً مسلوباً، وتهزم عدواً جشعاً متغطرساً هدفه تحويلنا إلى عبيد وعملاء، تحت راية السلام الكاذبة. فلتندحر الجاهليّة… فلينتصر الكتاب!