فلنأخذ النقاش حول توقيع الكتب في المعرض وغيره الى نقطة أبعد من المربع الأول المثقل بالكليشيهات الجاهزة: المجاملات الاجتماعية، الربح المادي، الطوابير الواقفة أمام «الكيتش» بكافة أشكاله وعزلة الأدب الجيد. قلما يعيش شاعر اليوم أو كاتب قصة من مردود كتبه. الزمن كذلك جدير بمعرفة الغث من السمين، فلننتقل اذن الى اسئلة في صميم الثقافة، مثل: «هل من المفيد للقارئ اليوم أن يلتقي بكاتبه المفضل؟».
سؤال قد تفضي الإجابة عليه الى مساءلة عاداتنا في حفلات توقيع الكتب، من أجل تجديدها، أو تدعيمها أو نسفها من أساسها. في اللحظة الراهنة، نكتفي بالسؤال، اذ ليس هناك من تقييم جدّي ودقيق لأثر اللقاء مع الكتّاب والمؤلفين، وهل يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على تصورات وممارسات القراء الجيدين، وأي نوع من اللقاءات هو الأكثر فعالية، وكذلك ما هي نوعية الجمهور ومدى ثقافته. مفهوم «المؤلف» يتبلور لدينا منذ الزمن الأول لاحتكاكنا بالكِتاب، لنسجنا للعلاقة الأولى مع القصيدة مثلاً، أو القصة. يحدد القارئ مساراً معيناً مع الكتاب، ويكوّن بالذهاب والاياب المتكررَين اليه تفسيراً يمكن أن يواجِه به القراءات الأخرى والقراء الآخرين. لا يبدو الاسم المكتوب على الغلاف مهماً، إلا اذا سمح لاحقاً بنسج علاقة مع كتب تحمل التوقيع ذاته. يمكننا اختيار كتاب ما لأننا كنا قد قرأنا من قبل للكاتب ذاته، لكنه احتمال ضمن مروحة متعددة: قد نهتم بسلسلة معينة، أو نوع أدبي، أو اخراج معين للصفحات، وليس هناك من سبب مقنع لتفضيل دافع على آخر. سيكون اللقاء وجهاً لوجه مع الكاتب مثمراً اذن لو توفرت عبره فرصة لتقوية حرفة القراءة بذاتها، لتأخذ حيزاً أوسع من فتح الكتاب لقراءته بل لتشمل مجموعة مما يمكن تسميته بالديناميكية الثقافية. تقول مارغريت دوراس إن لكل كاتب «غرفة سوداء»، هي أوسع مفهوماً من الحيز الجغرافي بل أشبه بالمختبر حيث يمكننا تلمس خطوط التوتر الأكثر حركية في النص، الخصوصيات الأسلوبية والثيمات التي تطبع العمل الأدبي. في لقاء القارئ بالكاتب مساحة أولى «فيزيونومية» تسمح بوضع الأسماء فوق الوجوه، مساحة ستصبع أغنى لو مكّننا اللقاء من دخول الغرفة السوداء للكاتب، لفهم البروتوكول المتعلق بتجاربه، والمادة التي تستخدم في صياغة النص، وحساسية الكتابة، وطابعها العشوائي أو المنظم، وكيف يمكن الانتقال من نص أول يخص الكاتب وحده في لحظة الخلق، الى نص ثان قد تنمحي فيه هوية الكاتب الشخصية ليصير ملكاً للقارئ وحده. ثم هل سيمكننا اللقاء من التحدث مع قراء آخرين؟ وهل سيتوفر بينهم من قرأ للمؤلف ذاته بالكمية والعمق اللازمين لمساعداتنا على فك شيفرة النصوص؟ أسئلة تتناسل بعضها من بعض، كسؤال: ألا تسهم تواقيع الكتب في جعل الكاتب ايقونة فوق رأسها هالة من السر بشكل مصطنع؟ اسئلة الأطفال اثناء التوقيع لكاتب ما (هل انت شخص مشهور؟) ليست بسيطة بالمطلق، وكأن في حفلات التوقيع عملاً ممسرحاً، حيث تتم دعوة الكاتب الذي يؤثر العزلة الى تقاسم نشاط ما مع الآخرين، أو بالأحرى أن يعيش معهم لحظة مشتركة يتحمل الكاتب فيها بنفسه مسؤولية ايجاد عناصر للإجابة على كل الأسئلة المفترضة حول اللقاء ودوافعه، وهي بالضرورة أبعد من الدافع المادي وحده. في المحصلة، اللقاء الحقيقي يكون في النصوص. من بعدها يمكننا قياس نجاح حفلة توقيع بطريقتين: الأولى احصائية عقيمة تكتفي بتعداد المدعوين، والثانية خصبة تدعو الى مواجهة تفضي الى تهيئة ونمو ذلك الحوار الصامت مع الآخر، مع كل الآخرين ومع النَفْس الذي هو في قلب مهمة الثقافة وفي روح الأدب.