لا يسمع كثيرون بالموسيقي مارك جرجس وهذا بالفعل أمر متوقع. فهذا المثقف الطليعي الأميركي، من أصول عراقيّة. وإلى جانب احترافه العزف ومشروعه الفني الشخصي في الموسيقى التجريبيّة، فإنه ـــ عبر عقود عدّة ـــ يؤرشف ويروّج لأصوات وموسيقى وضجيج لا ترغب المؤسسة الثقافيّة الأميركيّة في سماعها، وتفضّل قطعاً لو أنها تتلاشى من ذاكرة الزّمان والمكان: بلاد عريقة وجميلة مثل العراق وسوريا وفيتنام يريد الأميركي تصويرها كدول مارقة.
ولذا، فلا تكاد تجد لجرجس ذكراً في أي من قنوات الإعلام الرأسمالي الكبرى. لكن ذلك تحديداً هو ما يعطيه عزماً استثنائيّاً في مواجهة التجهيل المتعمد، وسوء الفهم المتراكم، ومحترفي الكذب الذين لم يعد يرى جرجس فرقاً بين ليبرالييهم ويمينهم المتطرّف.
ينحدر جرجس من عائلة عراقيّة هاجر كثير من أفرادها إلى الولايات المتحدة (والده عراقي من بغداد وأمه أميركيّة من كاليفورنيا) واندمجوا في المجتمعات المحليّة فيها مع احتفاظهم ببعض معالم تراثهم، لا سيما الموسيقى وأغاني الأفراح والدبكات التقليديّة. وهو ما أثار انتباه جرجس الذي نشأ كأي شاب أميركي مستهلكاً لموسيقى البوب الغربيّة بتياراتها المختلفة. لقد أدرك سريعاً بحساسيته المفرطة للأصوات بأن تسليع الموسيقى في المنظومة الرأسماليّة، كان يحولها إلى منتج قصير العمر تستمتع به لدقائق عابرة ثم تمضي.
ترافقت تلك الفترة من حياته مع العدوان الأميركي على العراق في عام 1990 الذي كان بمثابة نقطة تحوّل مفصليّة وصدمة وعي له وهو يشاهد رأي العين، أي إمبراطوريّة شريرة هي أميركا، وكيف ينظر الأميركيون ذوو البشرة البيضاء بارتياب استشراقي النزعة إلى من هو أميركي من أصول عراقيّة أو عربيّة، ما لم يخلع ثقافته الأصليّة بالكامل ويذوي في ظلال مشروع الإمبراطوريّة.
بدأ جرجس مواجهته الفرديّة لهيمنة الإمبراطوريّة من خلال الانطلاق في رحلة للبحث عن أصوات أخرى مختلفة. رحلة تحولت بمرور الأيّام إلى ملحمة أسطوريّة كأنه جلجامش عراقي معاصر يطارد الأصوات إلى نهاية العالم ليمنحها الخلود.

يؤرشف لموسيقى لا ترغب المؤسسة الثقافيّة الأميركيّة في سماعها

زار جرجس سوريا في نهاية التسعينيات وبداية القرن الجديد. هالته أصوات الغناء الشعبي التي تصدح من الإذاعات المحليّة وكاسيتات الباعة وإيقاعات الحياة اليوميّة وضجيج الشوارع في حواضر الشام دمشق وحمص وحلب وحماة والحسكة ودير الزور، فبدأ يسجلّ ما يتناهى إليه من أصوات وأغان ويحتفظ بها ويسأل عنها. كانت تلك هي المجموعة الأساسيّة التي تحولت في ما بعد إلى وثيقة اجتماعيّة هامة من خلال عمله الأرشيفي «أنا أتذكر سوريّا» الذي أصدره عام 2004 من خلال علامة مشروع Sublime Frequencies وأعيد إصداره في 2013 (نسخة رقميّة ديجيتال) بعد الهجمة الأميركيّة الأخيرة على ذلك البلد تحت غطاء الثّورات الممولة وفق ما يصفها جرجس. ورغم أن البعض انتقد ذلك العمل بوصفه شكلاً من أشكال الاستشراق الجديد، إلا أنه كان بالفعل أحد الأصوات النادرة في الدّاخل الأميركي التي تصدّت للرواية الرسميّة المعنية بشيطنة سوريّا والسوريين وإزالة صفة الإنسانيّة والتحضّر عنهم، وقدّم أشكالاً موسيقيّة وأصواتاً لا تسمع عادة في الغرب، لا سيما أنّ الجمهور الأميركي العادي مصاب بآفة جهل تام بشأن كل ما هو خارج فضاء الولايات المتحدة.
لا أوهام لدى جرجس بشأن النوايا العدوانيّة الأميركيّة ضدّ سوريّا، وهو تحدث في مقابلات عن إحساسه العميق بخطر داهم مقبل عليها لحظة انطلاق العدوان الأميركي على العراق في 2003. لكن زيارته الأخيرة لسوريا في 2009 – 2010 أكدّت مخاوفه، إذ لاحظ أن هناك عدداً كبيراً من الغربيين الذين لا يشبهون السيّاح يتجولون في طول البلاد وعرضها من نوعيّات منسوبي منظمات المجتمع المدني الذين يندفعون كجنود استطلاع يحضرون للاجتياحات القادمة. كان هؤلاء يدفعون بسخاء لاستئجار شقق قليلة النوافذ، ويبنون علاقات مع الشبان المحليين ويجمعون أشكالاً مختلفة من المعلومات. ثم كان ما كان. لم يعد جرجس إلى دمشق منذ اندلاع الأحداث، لكنه يوجه عوائد عمله عن سوريا بالكامل للهلال الأحمر العربي السوري.
جمع جرجس تحت المشروع نفسه أصواتاً وموسيقات وتسجيلات من فيتنام وكمبوديا وماليزيا إلى جانب سوريا والعراق، ولاحقاً من إفريقيا وأميركا اللاتينيّة، وقدمها في ألبومات حازت اهتمام الأميركيين المنحدرين من تلك البلاد، لكنها لا تصل على نحو كاف في ما يبدو إلى الجمهور الأميركي العادي الذي يبدو مكتفياً من الموسيقى العالميّة بمنتجات الموسيقى الإثنوغرافيّة كما تعلّبها وتهذبها وتعيد خلقها صناعة الموسيقى التجاريّة المعولمة في الغرب.
خلطة السياسة بالموسيقى عند جرجس هذه تجلّت أكثر ما يكون في مشروعه الفني الشخصي المعروف بـ Porest وهو الاسم الذي قّدم من خلاله بداية من Tourrorists (صدر عام 2006) أعمالاً غنائيّة وموسيقيّة عدة تتسم بقدرتها على السخريّة من قضايا الساعة السياسية وغالباً ما تصيب أوتاراً حساسة ومثيرة للجدل، لا سيما آخرها Modern Journal of Popular Savagery. وهو إلى جانب ذلك، يدير علامة إنتاج تحت اسم «شام بالاس» نجح من خلالها في تقديم الفنان السوري الشعبي عمر سليمان إلى العالميّة.
جرجس هذا السومري النبيل، سيلقي رحاله في بيروت هذا الشهر. لكنه بالتأكيد لن يطيل البقاء، فمهمته كحارس لأصوات العالم ستأخذه إلى مدن أخرى كثيرة، لكنها فرصة لنا لسماع صوته الذاتي ولو على سبيل التغيير.

* بورست/ مارك جرجس: السبت 9 كانون الأول ــ س:23:00 ــــ KED