لا في خطاب تحرير الجنوب عام 2000، ولا في احتفال استقبال الأسرى – وعلى رأسهم الشهيد سمير القنطار – ولا في خطاب انتصار المقاومة عام 2006، سار خطاب سماحة السيد حسن نصرالله على سكة واحدة، وبنبرة صوتية واحدة، غاضبة ومتحدية، كما كانت عليه الحال في خطابه في الضاحية الجنوبية.
اعتدنا في خطابات السيد أن تكون موجِية الطابع، تراوح بين الخطاب الحماسي الحاد، والشروحات الهادئة، والسخرية المبطنة أحياناً. أما في الضاحية الجنوبية أمس، فكان الخطاب بقالب آخر، وتيرة واحدة من البداية حتى النهاية، عنوانها الأساسي الغضب وقمة الجاهزية والاستعداد للمبادرة والرد على أي تهديد يمسّ فلسطين قبل أن يمسّ لبنان.
وبما أن كلاً من ترامب ونتنياهو قرّرا التصريح بفجاجة بالصيغة الثنائية، إما – أو، كان لا بد لخطاب سماحة السيد أن يسير على هذا الإيقاع... «الموت لإسرائيل»، «الموت لأمريكا».
المعادلة الثنائية عند ترامب ونتنياهو، والرد عند سيد المقاومة، جميعها لا تحمل أي جديد في سياسة الطرفين، ولكنها تحمل جديداً في صياغة الموقف الأميركي وطريقة إخراجه، الانتقال من التمايز بين الموقف المعلن والمضمر، إلى توحيدهما، وهذا ما يؤسس لمرحلة جديدة في المنطقة والعالم، عبّر عنها السيد ضمن خطابه في عدة أفكار، منها:
أولاً: المقاومة الفلسطينية هي مفتاح الحل، تصاعد رد الفعل الفلسطيني يفتح الباب لمزيد من الإسناد المحيط. صحيح أن المطالبة بتوحيد الفصائل الفلسطينية تحت العنوان نفسه قد لا يكون أمراً سهلاً، إلا أن خطوة ترامب نزعت كل ذرائع وحجج ومبررات وتفسيرات التيارات المؤمنة بمسار التفاوض. خطوة ترامب عزّزت نهج المقاومة في فلسطين ليبتلع حجج المسار التفاوضي من جهة، ويكسب أغلبية الشارع الفلسطيني من جهة أخرى. فلسطين جاهزة اليوم للانحياز لخيار واحد (خيار المقاومة)، ودون إشكاليات داخلية، وهذا هو الأهم.
ثانياً: محور المقاومة ينهض من جديد، مع كل آلامه وجراحه، ويكاد ينهي معاركه بعد سنوات عجاف ألمّت بالمنطقة بأكملها. مع الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لانتصار محور المقاومة على مشروع التفتيت والتفكيك والفتن، إلا أن هذا المحور اليوم يكسب أكثر في تذويب الدعاية الخليجية الأميركية المضادة، التي جرى تفعيلها طوال السنوات الماضية. هل سنسمع شاباً عربياً يعيش في الفلك الاقتصادي والثقافي السعودي يقول: «بات كل شيء جلياً، أنا مع المحور المقاوم»، حدث ذلك! وسيحدث أكثر، و«يميز الخبيث من الطيب».
ثالثاً: كان ترامب يتوقع أن العالم سيتدافع ويلحق به في اعترافه هذا. يمكن القول إننا تعودنا أن تقف أميركا اللاتينية معنا في قضايانا، ولا سيما أنها ما زالت تتعرض لما نتعرض له نحن. ولكن المعادلة القاسية عند الأميركي هي أوروبا، فمهما حاول اليمين في أوروبا التماهي مع السياسة الأميركية، فلن يتمكن من اللحاق بخطى دونالد ترامب، فأوروبا نفسها عانت خلال العقدين الماضيين من تسرب الثقافة الأميركية إلى بنيانها الاجتماعي والسياسي. الأوروبيون سئموا العدوى التي أصابت البرجوازية الأوروبية العريقة بعصاب الرأسمالية الأميركية المتوحشة، كل ذلك يساهم اليوم في لجم اليمين الأوروبي من اللحاق بترامب.
رابعاً: «التهديد الذي يتحول إلى فرصة». انشغلت منطقتنا طوال سنوات «الربيع العربي» بالاقتتال الداخلي والفتن المدعومة من الغرب. يقدم ترامب هدية ثمينة لشعوب المنطقة، سبباً أصيلاً وعريقاً للوحدة والاصطفاف، القضية الفلسطينية بكل ما تحمل من وجدان ديني عند السنّة والشيعة والمسيحيين، ووجدان قومي تحرري عند التيارات السياسية، ووجدان إنساني اجتماعي تربّى عليه الأطفال العرب والفلسطينيون في الشتات. هل تكون القضية الفلسطينية الاسم الحركي لقضايا أخرى في التحرر والتنمية والوحدة؟ مع دونالد ترامب قد يحدث ذلك!
خطاب بنبرة واحدة قدّمه السيد، وأربع أفكار أساسية مفادها أن العالم يتسع أكثر، لم يعد عالم أميركا وحدها. بات عالم محور المقاومة الذي ينتعش وتذوب الحساسيات المفتعلة حوله، وعالم روسيا والصين الصاعدتين، وأوروبا التي تستمر في خوفها وقلقها من نسخ التجربة الأميركية البائسة، وعالم أميركا اللاتينية التي تقاوم هي الأخرى، بشراسة.
* صحافي أردني