عمان | في الأسبوع الأول من أيلول الماضي، وأثناء عطلة مجلس النواب الأردني بعد انتهاء دورته الاستثنائية، وأيضاً قبل دعوته للدورة العادية، كُشف النقاب عن رسالة باسم حكومة رئيس الوزراء، هاني الملقي، موجهة إلى البنك الدولي. «النيات»، التي أعربت عنها السلطة التنفيذية في رسالتها التي جاءت من وراء ظهر السلطة التشريعية، تلخّص موازنة 2018 التي قُدّمت إلى اللجنة المالية في مجلس النواب في نهاية تشرين الثاني 2017، ودار نقاش حولها وسط رفض عام لمقترحات تتعلق برفع الدعم عن سلع عدة، أبرزها الطحين المرتبط بأسعار الخبز، وأيضاً تقليل الإعفاءات الضريبية والجمركية وتوسيع قاعدة الدخل الخاضع للضريبة.
لكنّ الحكومة بدت، عبر تصريحاتها عن الأزمة الاقتصادية ووجوب تبني حلول صعبة إثر ارتفاع الدين العام وتراكم المديونية، مقتنعة تماماً بمشروع الموازنة الذي صاغته وفق رؤية مشتركة مع «صندوق النقد» الدولي الذي تزور بعثته عمّان عدة مرات سنوياً، بل يمكن القول إن الحكومة متسقة أيضاً مع رسالتها المذكورة، إذ وفَت بوعودها واستعدادها لاتخاذ أي إجراءات إضافية وصفتها «بالمناسِبة لتحقيق برنامج الإصلاح الاقتصادي» الذي تبنّاه الأردن قبل ربع قرن.

من اللافت خلوّ المنح الخارجية في هذه الموازنة من المال الخليجي


وبالأرقام، تبلغ المديونية نحو 38 مليار دولار أميركي، فيما يشكّل الدين العام ما يربو على 95% من الناتج المحلي الإجمالي. أما الإيرادات العامة، فتبلغ ما يقارب 12 مليار دولار، تشكّل الإيرادات المحلية منها 92% (تعتمد في أكثر من ثلاثة أرباعها على الضرائب)، فيما تشكّل المنح الخارجية ما نسبته 8%، ولا تصبّ هذه المنح مباشرة في الخزينة، بل تكون على صورة مشاريع تنموية تشرف عليها الدول المانحة.
هذه المنح المفترضة (والمتراجعة كما ورد من الحكومة) في مشروع الموازنة المصدّق عليه أخيراً تقدر بنحو 978 مليون دولار، واللافت أنها تخلو من منح خليجية جديدة بعد نفاد المنحة الخليجية التي حصل عليها الأردن على مدار خمس سنوات على شكل مشاريع. أيضاً، جاء هذا الرقم قبل تهديدات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بمعاقبة الدول التي ستصوت مع قرار مجلس الأمن «بإبقاء الوضع في القدس على ما هو عليه»، وكانت المملكة مع المصوتين.
وفي موسم الموازنة المقلق، تصدرت تصريحات ترامب المشهد الداخلي على المستويين الرسمي والشعبي، إذ انشغل مجلس النواب في التحركات المحلية والخارجية لدعم اللقاءات الديبلوماسية التي يجريها الملك عبد الله الثاني بنفسه، كذلك أعلنت اللجنة القانونية النيابية منتصف الشهر الماضي أنها ستراجع الاتفاقات الثنائية مع إسرائيل، وهذا سيشمل معاهدة وادي عربة، من أجل رصد الخروق الإسرائيلية. وفي آخر جلسات المجلس، 31 كانون الأول الماضي، التي أقرّت فيها الموازنة، ظهر النواب والفريق الوزاري وهم يضعون صورة للملك مع جملة «خادم أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين»، وهو لقب لم يكن متداولاً في المملكة قبل ذلك.
ورغم أن أزمة القدس كانت فرصة استعراضية للكثير من النواب، فإن موضوع الموازنة خطف الأنظار لبضع الوقت، وخصوصاً في آخر يوم من السنة الماضية، إذ نوقشَت الموازنة وأُقرَّت في اليوم نفسه، وذلك على غير عادة المجلس. ففي الجلسة التي حضرها 99 نائباً من أصل 130، جرت الموافقة على «مشروع الموازنة العامة والوحدات الحكومية 2018» بتصويت 58 نائباً مع المشروع، فيما حجب الباقون أصواتهم.
وقاطع عدد من النواب الذين يشكلون «كتلة الإصلاح»، المحسوبة على «الإخوان المسلمون» (14 نائباً)، ومستقلون، الجلسة. وهذا يعني أن النتيجة الضعيفة لإقرار قانون الموازنة كانت ستتغير إذا حضر المقاطعون لجلسة التصويت وحجبوا أصواتهم، وهو ما أثار انتقادات واسعة لـ«الإصلاح» التي دافعت عن نفسها بالقول إنها التزمت المذكرة النيابية التي وقعت في مطلع كانون الأول الماضي لمقاطعة جلسات مناقشة الموازنة. وعلى اختلاف قوة وجود «الإخوان» في عمر المجلس النيابي على مدار سنوات، فإن الآلية التي انتهجتها الكتلة للضغط «المزمع» باتجاه «ضرب» نصاب جلسة التصويت على الموازنة يذكّر بموقف نواب الجماعة الذين انسحبوا من جلسة التصويت على إقرار معاهدة وادي عربة. وهذا «التكتيك»، وفق مراقبين، ما هو إلا مخرج آمن يحفظ ماء الوجه لـ«الإخوان» الذين لا يريدون التصادم المباشر مع النظام على موضوع «محسوم» مسبقاً مثل الموازنة.
بناءً على ذلك، يدخل المواطنون العام الجديد مكشوفي الظهر، لكن من الخطأ الاعتقاد أن هذه الموازنة هي الأصعب، لأنها سلسلة من الموازنات السابقة المتوائمة مع النهج الاقتصادي البعيد كل البعد عن خطط تنموية قادرة على بناء اقتصاد وطني يستطيع التصدي للتحديات، وخصوصاً مع عدم إيفاء الدول المانحة بوعودها تجاه اللاجئين السوريين، وهو ما عبّر عنه حتى رأس النظام حين قال إن اللجوء السوري يكلف الأردن ربع موازنته. وبالتوازي مع مضمون التوجهات الحكومية المقبلة، هناك ارتفاع في أسعار المحروقات والكهرباء لا يبدو له أفق، وقد يبدو الحديث عن توزيع دعم للخبز «للفئات المستحقة» طريفاً بعد تصريحات رئيس اللجنة المالية في المجلس، عن قيمة الدعم الذي يبلغ 14 سنتاً أميركياً للفرد الواحد عن كل يوم.
حتى الآن لا ردود فعل شعبية على ارتفاع سعر كيلو الخبز من 23 سنتاً إلى 44، علماً أن «هبة الخبز» عام 1996 أسقطت حكومة عبد الكريم الكباريتي حين طرح السيناريو نفسه، كذلك فإن الحراك الذي انطلق في 7 كانون الأول 2011 بالتزامن مع المظاهرات في الوطن العربي لم يؤسس آنذاك لحامية شعبية قادرة على التصدي لسياسات حكومات «الجباية»، رغم نجاحه جزئياً في تأجيل ما أُقرّ عبر موازنة 2018 حين انتهى «العرض» وصدقت «الرسالة»!