بعد الرسائل والمواقف التي وجّهها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في مقابلته الأخيرة مع قناة «الميادين»، بات بالإمكان مقاربة الاعتداء الإسرائيلي الأخير الذي استهدف منطقة القطيفة السورية، وما سبقه وقد يعقبه من اعتداءات مشابهة، من موقع أكثر إدراكاً لمجمل مفاعيل هذا النوع من الاعتداءات، ويقدم أجوبة على الكثير من الأسئلة التي واكبته طوال السنوات الماضية، إضافة إلى بعض ملامح ما تنطوي عليه من احتمالات تتصل بمستقبل هذا المسار.
يندرج الاعتداء الإسرائيلي الأخير في الساحة السورية ضمن استراتيجية المعركة بين الحروب، التي تقول إسرائيل إنها تستهدف تعاظم قدرات حزب الله الكاسرة للتوازن، إضافة إلى ما تقول إنه منع تمركز إيران في سوريا، لكونه ينطوي على تهديدات استراتيجية تتصل بواقع الأمن القومي الإسرائيلي ومستقبله. لكن مستوى نجاح هذا النوع من الاعتداءات بقي يتسم بقدر من الضبابية بالنسبة إلى الرأي العام في كل الساحات، مع أن استمرار تعاظم قدرات حزب الله النوعية والكمية يشكل الدليل الأبلغ على فشلها. لكن موقف السيد نصر الله، خلال المقابلة مع الزميل سامي كليب، شكّل كشفاً وإعلاناً رسمياً لمجمل نتائج هذا المسار المستمر منذ خمس سنوات (كانون الثاني 2013، تاريخ أول اعتداء من هذا النوع). وهو ما أكده بالقول إن هذه الضربات «لم تستطع أن تمنع، وهو (الإسرائيلي) يعلم ذلك، من رفع مستوى قدرات وإمكانات وجهوزية المقاومة»، بل ذهب (السيد نصر الله) أبعد من ذلك، بالتأكيد أنه «لم يمنع ولن يمنع، وهم يعرفون ذلك». ولفت إلى أنه لم يكشف سراً في هذا المجال، وإن كانت المرة الأولى التي يُحكى فيها إعلامياً عن الجواب، لكن الإسرائيليين أنفسهم يعرفون ذلك.
مع أن إسرائيل انطلقت في خيارها العدواني (المعركة بين الحروب) من تقدير ثبتت صحته نسبياً، أنه ليس من مصلحة محور المقاومة الرد على كل ضربة توجهها (على الأقل في ما يتعلق بالكثير من الضربات السابقة)، بما يؤدي إلى فتح جبهة ثانية واسعة مع كيان العدو، في الوقت الذي يخوض فيه معركة وجودية ضد الجماعات الإرهابية والتكفيرية. لكن ما أضافه السيد نصر الله إلى هذا المفهوم، أن من أسباب عدم الرد ما لم يقتصر فقط على تجنب سيناريو فتح جبهتين يغذي بعضهما البعض، بل أيضاً لكونه «يخدم التحضير للحرب الكبرى». وأوضح ذلك بالقول إنه «في المرحلة الحالية الكل حريص عدم الذهاب إلى تدحرج في مكان ما إلا اذا حشر... هذا أمر يُصبر عليه حتى إشعار آخر ولا أقول يصبر عليه دائماً، لمصلحة الهدف الاستراتيجي الكبير، وهذا ما أسميه قواعد الاشتباك». وبذلك يكون حزب الله قد تمكن خلال السنوات الماضية، ليس فقط مواجهة التهديد الإرهابي، بل نجح أيضاً في توفير مظلة ردع سمحت بمواصلة مسار تعاظم قدراته النوعية والكمية.
مع ذلك، لفت السيد نصر الله إلى مسألة هي بالأساس موضع قلق شديد لدى كافة الخبراء والمعلقين في تل أبيب، بل حتى لدى صنّاع القرار السياسي والأمني في تل أبيب. وينبع هذا القلق من إدراكهم أن إسرائيل من خلال اعتداءاتها المتكررة على الساحة السورية، هي كمن يسير على حبل دقيق لا يعرف متى ينقطع به. ثم أتى موقف السيد نصر الله ليؤكد هذه المخاوف، ويدفعها صعوداً، بالكشف عن أن هذا النوع من الاعتداءات التي شهدتها سوريا حتى الآن، (ومن ضمنها اعتداء القطيفة)، ويندرج ضمن «قواعد الاشتباك»، «قد تكون صالحة ويتم ممارستها لفترة من الزمن، ما يتعلق بقواعد الاشتباك خاضع دائماً للمراجعة، لا شيء نهائياً». ويعني ذلك، في ما يعنيه، أن قادة العدو الذين التزموا حتى الآن سقوفاً وضوابط محدَّدة في قراراتهم، نتيجة إدراكهم أنه في حال تجاوزها (السقوف والضوابط) سيدفعون أثماناً مؤلمة، سيكونون أكثر حرصاً وتدقيقاً في حساباتهم لدى دراسة أيّ من الخيارات العملانية وما قد يطرح من سيناريوهات لارتقاء تصاعدي على أمل أن يحققوا ما فشلوا به خلال الخمس السنوات الماضية. ويندرج هذا «الانضباط» (اضطرار العدو لتسقيف وضبط اعتداءاته) ضمن إطار ما يسمى الردع العملاني الذي يفرض على العدو تسقيف اعتداءاته تجنباً لحشر الطرف المقابل ويدفعه إلى مستويات محدَّدة من رد الفعل. (نائب رئيس أركان جيش العدو السابق، اللواء يائير نافيه: الردع العملاني الذي يستهدف تقييد قوة المسارات العسكرية... في ما يشبه فرض قواعد لعبة»، في مقابل الردع الاستراتيجي: وهو الردع عن المبادرة إلى الحرب بسبب الأثمان الكبيرة («إسرائيل دفنس»، 12/02/2015).
تزامن الاعتداء الإسرائيلي، أيضاً، مع الكشف عن سلسلة اجتماعات للمجلس الوزاري المصغر لبحث الجبهة الشمالية التي تتعاظم فيها قدرات محور المقاومة الهجومية والدفاعية، بما يعزز معادلة الردع الإقليمي لمصلحة الأخير. وأيّاً كانت العلاقة بين هذه الجلسات واعتداء الأمس، إلا أنه يأتي في سياق محطة مفصلية تمرّ بها سوريا والمنطقة التي سيكون لها مفاعيلها وتداعياتها على مجمل معادلات الصراع في المنطقة. وهو ما كان حاضراً (بحسب تقارير إعلامية إسرائيلية) في التقدير الاستخباري السنوي الصادر عن الاستخبارات العسكرية «أمان» الذي وصف عام 2018 بأنه عام «اليوم الذي يلي»، وهو ما يعني أن على إسرائيل أن تدرس خياراتها، في ما يتعلق بالجبهة الشمالية، في ضوء ما بعد فشل الرهان على «دولة داعش»، وما بعد انتصار النظام السوري وحلفائه في محور المقاومة، ومع تسارع المسار التصاعدي لقوى محور المقاومة الذي ترى فيه إسرائيل تهديداً استراتيجياً لأمنها القومي.
في ضوء ذلك، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع لا تستطيع التسليم به، وأيضاً لا تملك القدرة على إحداث تغيير جذري في موازين القوى الاقليمية.
لا هي قادرة على الارتقاء بما يتجاوز الضوابط التي التزمتها طوال سنوات ماضية لضمان جدوى أفضل، وفي الوقت نفسه تبقى آمنة ومن دون دفع أثمان مؤلمة، ولا هي قادرة على التكيف مع الواقع الذي تبلور بفعل انتصار محور المقاومة.
في هذه اللحظة المفصلية بالذات، التي يدرس فيها العدو خياراته العملانية والعدوانية، أتت رسائل الأمين العام لحزب الله، كي توضح بما لا لبس فيه أن حزب الله مدرك بعمق لمروحة الخيارات التي تمثل أمام صناع القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وما قد يترتب عليها من مفاعيل. وفي المقابل، فإن حزب الله ومحور المقاومة قد اتخذا قراراً برد يتجاوز ــ بمعنى من المعاني ــ مبدأ التناسبية الذي قد تتوهمه إسرائيل، وصولاً إلى الاستعداد لسيناريو الحرب الكبرى. ولعل الفرصة الأكبر في هذه الرسالة ــ التهديد، أن الاستعداد لهذا السيناريو هو الذي قد يحول دون تحققه، انطلاقاً من فرضية أن هناك قدراً من «عقلانية الخائف» يتمتع بها قادة العدو.