ما لم تثمر جهود الساعين إلى تأجيل الانتخابات النيابية 6 أشهر على الأقل خلال الساعات المقبلة، سيكون العراقيون على موعد مع استحقاق استثنائي في الثاني عشر من شهر أيار/ مايو القادم. «استثنائية» تنبع من جملة حقائق، لعلّ أهمها ثلاث: أولاها أن هذه الانتخابات تلي مخاضاً عسيراً عاشته بلاد الرافدين خلال الأعوام الأربعة الماضية، أسفر عن تبدلات سياسية وتحولات اجتماعية وتغيرات اقتصادية لا يمكن البتة الاستهانة بها، بل يمكن القول إنها هي التي ستعيد رسم العراق وتشكيل هويته مستقبلاً.
وثانية تلك الحقائق، وهو لزوم للأولى، أن المخاض المذكور نجمت عنه ولادة قوى شعبية، سرعان ما اكتسبت قوة ونفوذاً كبيرين، حتى باتت عنصر إقلاق لغير طرف إقليمي دولي. أما الحقيقة الثالثة فهي أن التصويت البرلماني يأتي في أعقاب انتخاب رئيس أميركي جديد يضع نصب عينيه، وفق ما أنبأت به تطورات الأوضاع إلى الآن، مواجهة إيران أينما وُجدت أو لاح طيفها. من هنا، تكتسب الانتخابات المقبلة أهميتها، وتستحيل أشبه ما يكون بميزان لتقدير الأحجام، ومن ثم البناء على الشيء مقتضاه.
في رأس ما توحي به قائمة التحالفات الانتخابية التي خرجت بوادرها إلى العلن خلال الساعات الماضية، أن الساحة السياسية العراقية لا تزال أسيرة لاستقطاب طائفي ــ قومي يحدّدها باتجاهات ثلاثة: سني ــ شيعي ــ كردي، على الرغم من تطعيم كل من التحالفات نفسها بوجوه مغايرة لهويته. هذا الاستقطاب سينعكس، دونما شك، على سيرورة التصويت ونتائجها، من دون أن يعني ذلك استبعاد إمكانية تشكّل تحالفات، يحلو للبعض تسميتها «الأغلبية السياسية» ولآخرين «الأغلبية الوطنية»، ما بعد الانتخابات. على مستوى آخر، يُلاحظ في خريطة التحالفات تشرذم القوى السياسية، وافتراق حلفاء قدامى بعضهم عن بعض، وتباعد أطراف كان من المتوقع اجتماعها في قوائم موحدة. واقع يمكن تفسيره بأن الأمور لا تزال مختلطة لدى الأطراف السياسية، وبأن جنوح معظمها إلى خوض الاستحقاق منفردة أو شبه منفردة، إنما مردّه إلى رغبتها في الوقوف على حجمها الشعبي الحقيقي، وعدم المجازفة بتحالفات ربما تحصد أصواتاً من طريقها، طالما أن «لحدث ما بعد الانتخابات حديثاً» آخر، وأن التحالفات السياسية غير مستعجلة الآن.
في تفاصيل التشكيلات الانتخابية الوليدة، تبرز على المقلب «الشيعي» ثلاثة تحالفات رئيسية. التحالف الأول هو المسمى «تحالف النصر والإصلاح» الذي يرأسه رئيس الوزراء حيدر العبادي. يمكن الوقوف على الغاية من إشهار هذا التحالف من اسمه مباشرة: استثمار الانتصارات التي تحققت ضد «داعش» في عهد العبادي، وكذلك الحملة «الإصلاحية» التي أطلقها في آب/ أغسطس 2015، لبلوغ إنجاز انتخابي يتقدّم من خلاله منافسيه، ويعبّد تالياً طريقه إلى ولاية ثانية. غاية لا يبدو، إلى الآن، أن الوصول إلى شقها الانتخابي سيكون يسيراً لأسباب عدة: أولها أن المفاوضات مع تيارَي مقتدى الصدر وعمار الحكيم لم تفلح في جرهما إلى خندق العبادي الانتخابي، وبالتالي ليس لدى الرجل فرصة الإفادة من وزنَيهما. ثانيهما أن محاولات رئيس الوزراء مساومة فصائل «الحشد الشعبي» للاصطفاف إلى جانبه لم تتمكن من إقناع الأخيرة بالامتناع عن إعلان «تحالف انفرادي»، وعليه فلن يتمكن العبادي من تجيير شعبية «الحشد» لمصلحته. وثالث الأسباب المذكورة أن افتراق العبادي، انتخابياً، عن زعيم «ائتلاف دولة القانون»، الأمين العام لحزب «الدعوة»، نوري المالكي، بعد فشل مساعي الأخير في استمالة الأول إلى «ائتلافه»، سيحرم العضو في حزب «الدعوة» (والذي تضعه عضويته هذه أمام إشكالية قانونية وحزبية سيتعين عليه حلها خلال الساعات المقبلة) من فرصة الإفادة من قدرات المالكي الانتخابية. يُضاف إلى كل ما تقدم، أن حماسة المعوّلين على العبادي، وخصوصاً في أوساط مدينة النجف، في «استنقاذ البلاد من إرث السنوات العجاف» شهدت، أخيراً، فتوراً واضحاً، وهو ما قد ينعكس سلباً على الحضور الانتخابي لرئيس الوزراء.
التحالف الثاني ضمن قائمة «التحالفات الشيعية» هو المسمى «دولة القانون» والذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي. يبدو هذا التحالف، للوهلة الأولى، نوعاً من المخاطرة من قبل المالكي؛ كونه يخلو من حضور أي فصيل من فصائل الحشد الشعبي التي كان يراهن عليها الرجل لـ«استعادة مكانته»، كما تغيب عنه أسماء شخصيات «ذات ثقل»، من مثل هادي العامري، سبق لها أن خاضت الاستحقاق الانتخابي جنباً إلى جنب المالكي عام 2014. إلا أنه، في المقابل، يعوّل الرجل على عنصرَي قوة يظهر واثقاً منهما: أولهما أنه يعتبر نفسه أبا فكرة «الحشد الشعبي» الذي كان له الباع الطويل في تحرير بلاد الرافدين من «احتلال داعش»، وبالتالي فإن المزاج الشعبي سيحفظ له، بحسب اعتقاده، هذه المأثرة. وثانيهما أنه يمتلك ماكينة انتخابية متفوقة، في أدائها، على سواها من الماكينات، وعليه فبإمكانها منافسة نظائرها في التسويق والاستقطاب وغيرهما. بناءً على العنصرَين المتقدّمين، لا يزال المالكي على مطمحه إلى إعادة تشكيل دوره السياسي، بما يتيح له لعب دور «ملك الشطرنج» على الساحة، مراهناً في ذلك، أيضاً، على إمكانية تجيير كتلة «الحشد»، ما بعد الانتخابات، لمصلحته.

أخفقت معظم
القوى في
تشكيل قوائم
«عابرة للطوائف»


أما ثالث أبرز التحالفات، والذي يشكل العلامة الفارقة في هذه الانتخابات، فهو تحالف «الفتح المبين»، الذي يرأسه زعيم كتلة «بدر»، هادي العامري، ويضم شخصيات سبق أن أعلنت استقالتها من العمل العسكري داخل «الحشد الشعبي» بهدف خوض الاستحقاق. ما يميز هذا التحالف أنه يتوفر على عنصر القوة الأهم الذي أفرزته السنوات الأربع السابقة، والمقصود به عمليات «الحشد» التي تُوّجت بطرد «داعش» من معظم المناطق العراقية التي اجتاحها. ومن هنا، فمن غير المستبعد أن يحوز التحالف المذكور حصة في انتخابات 2018، تخوّله لعب دور «بيضة القبان» في أي خريطة سياسية ستتشكل ما بعد الانتخابات. دورٌ هو عين ما تخشاه واشنطن؛ بالنظر إلى أنها ترى في وصول ممثلي «الحشد» إلى البرلمان «خطراً داهماً» سيتيح لهم فرض رؤيتهم عنصراً مقرراً، مع ما ينطوي عليه ذلك من احتمالات «مقلقة» في ما يتصل بالنفوذ الإيراني، والتواصل الحيوي بين العراق وسوريا، والتموضع الاستراتيجي عموماً لبلاد الرافدين.
على المقلب «السني»، لم تُظهر التحالفات المعلنة أي أسماء جديدة مغايرة للوجوه التقليدية التي تتزعم هذا الشارع. حقيقةٌ تجعل من العسير توقع إقبال شعبي ذي أهمية على تلك التحالفات؛ بفعل ما يراه مراقبون تزعزعاً في عامل الثقة بين سكان المناطق الغربية وممثليهم البرلمانيين بعد ما شهدته السنوات الثلاث الماضية من تطورات دراماتيكية «كارثية» كان أهالي تلك المنطقة ضحاياها بالدرجة الأولى. لكن، في المقابل، تقلّ أمام هؤلاء البدائل التي يمكنهم الركون إليها، وخصوصاً أن معظم القوى والشخصيات فشلت في تشكيل «قوائم عابرة للطوائف» فعلاً، يمكنها تعزيز اللحمة التي نسجها قتال «الحشد» في المناطق الغربية، وترجمتها سياسياً. في هذا الإطار، وعلى الرغم من أن تحالف «الفتح المبين» لا يزال يعبّر عن طموحه إلى «اجتذاب كتل وممثلين عن المحافظات السنية» بما يتيح له «تقديم كيان متزن»، إلا أن المؤشرات الانتخابية لا تفتأ تضعّف احتمالاً من ذلك النوع. وحتى لو تمكن تحالف «الحشد» من تحقيق رغبته، فإنه سيجد نفسه داخل الدوامة عينها، والتي تراوح ما بين وجوه متهمة بـ«التآمر» على المحافظات «السنية»، وأخرى موسومة بالفساد.




هل تنكسر «الثنائية الكردية»؟

تنطوي التحالفات الانتخابية المعلنة على المقلب الكردي على إمكانية توقع مفاجآت مبنية على اتحاد القوى والأحزاب المعارِضة في تحالف واحد باسم «القائمة الوطنية الكردية». هذا التحالف لا يُستبعد أن يتمكن من حصد أصوات من طريق القوى الكردية التقليدية، وحيازة حصة وازنة في برلمان 2018، بالنظر إلى عاملَين: أولهما تململ الشارع الكردي من «التحالف الكردستاني» (الذي يخوض الاستحقاق الجديد بالاسم نفسه وبالقوى عينها) وخصوصاً بعد خيبة استفتاء الانفصال في أيلول/ سبتمبر 2017، وثانيهما تدهور الأوضاع المعيشية في المناطق الكردية على نحو غير مسبوق أدى إلى انفجار تظاهرات غاضبة في الشهر الأخير من عام 2017. غضبٌ ربما يُترجم، انتخابياً، في توجه شرائح كردية نحو قوى مغايرة لـ«الثنائية التقليدية»، تعتقد أن بإمكانها استنقاذ الأكراد مما آلوا إليه.
(الأخبار)