القاهرة | أي محاولة لفهم التاريخ المصري الحديث، ستكون ناقصة تماماً إذا تعاملنا فقط مع كتابات المؤرخين ومذكرات الساسة، وأخبار الصحف أو حتى الوثائق المعتمدة والمختومة بختم النسر. الفن وحده القادر على الإصغاء إلى الهمس، إلى الأنين، والغوص في ما لا تدركه العين وحدها. وهكذا لا يمكن فهم المجتمع المصري الحديث بدون قراءة روايات نجيب محفوظ (1911 ــ 2006).
قد يراها المؤرخون مصادر ثانوية لدراسة التاريخ، لكنها في الواقع هي التاريخ الحديث لمصر، بل هي أقرب إليه من التاريخ الرسمي. لم يكتب محفوظ من موقع التوثيق، لم يقدم رصداً واقعياً يضعه في خانة كتاب الواقعية التي تهمل الجمالي لصالح الفكرة، بقدر ما كان اللعب في الفن مقصده الرئيسي، ثم الوعي بالتاريخ ومكره.
تمتد حياة محفوظ وتتسع سيرةً لحداثة عربية ضلت دروبها. كيف كان الوطن؟ وكيف أصبح؟
فى المشهد الأول من «زقاق المدق»، يتخلى صاحب المقهى عن الراوي الشعبي الذي ينشد كل ليلة لرواد المقهى، لصالح الراديو، ذلك الاختراع العجيب في ذلك الوقت. يرصد محفوظ بدقة كيف تعامل المصريون مع الحداثة، وكيف أزاحت الماضي. وفي الثلاثية، نكاد نسمع أصوات القنابل بين المحور والحلفاء، ونقاشات المصريين عن «هتلر القادم لتخليصهم من أنياب الاحتلال». نرى الثورة تطل من كل بيت بعد نفي سعد زغلول.
أما في الستينيات ــ سنوات مجد محفوظ وصعوده ـــ سيكتب أجرأ أعماله، رواية تفضح الديكتاتورية، وتنتقد تأميم المجال الواحد في تلك المرحلة: «استحوذ الخوف على الناظر ورجاله، فبثوا العيون في الأركان، وفتشوا المساكن والدكاكين، وفرضوا أقسى العقوبات على أتفه الهفوات، وانهالوا بالعصي للنظرة أو النكتة أو الضحكة، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب» كما يكتب في «أولاد حارتنا». لكن محفوظ كان يحمي نفسه. روايته حيادية، تبدو كأنها لا تتهم، أو توجّه. رواية يتحمل أبطالها عبء ما يقولون ويفعلون لا كاتبها.
عاش عصر سلاطين، وملوك ورؤساء، عاصر ثورات وانقلابات، وحروباً وطواعين، ومآسي.. عايش التقلبات السياسية والمنعطفات الحاسمة، الثورات والأنظمة والحروب، من النكسة الى الاستنزاف وحرب أكتوبر، من ثورة 19، إلى يوليو ٥٢ الى كامب ديفيد، ومن «نوبل» الى الخنجر الغادر الذي جاءه من الخلف. استطاع أن يصمد في وجه التقلبات والعواصف والتغيرات التي أصابت المجتمع والثقافة، صموده في وجه الحقد الأصولي. واستطاع طوال سنوات عمره التي قاربت قرناً من الزمان ــ وبعد رحيله أيضاً ـــ أن يحافظ على تأثيره وفاعليته، ليصبح رمزاً عابراً للسنوات والعصور.
تبدلت الموضة وانقلبت المعايير الجمالية، وتغيرت الأسماء، وانسحب كتّاب كبار الى «متحف التاريخ»، فيما ظل محفوظ في مكانه، يثير الاهتمام والإعجاب والجدل الصاخب.

في الستينيات ــ سنوات مجد محفوظ وصعوده ـــ سيكتب أجرأ أعماله

تكبد صاحب «الثلاثية» مشقة السفر في عالم الرواية طوال عقود بعدما قاوم الشيخوخة تارة والسلطات طوراً، وكتّاب التقارير وصناع الطغاة، وسكاكين المتطرفين وكل الصعوبات التي كادت تحول بينه وبين الكتابة تارات وتارات.
لم يكن عمره قد تجاوز الـ 14 عندما بدأ الكتابة بقصة طويلة اسماها «الأعوام» مقلداً فيها رائعة عميد الأدب العربي طه حسين «الأيام». وعندما التحق بكلية الآداب، اختار الفلسفة، وظل مشتتاً لفترة بين الأدب والفلسفة حتى حسم أمره بالإخلاص للكتابة الأدبية وحدها. باختصار قرر أن يتخذ من الكتابة حرفة رغم ما ستجره عليه من مشكلات تماماً مثل راوي «أولاد حارتنا»!
عبر الكتابة، لم يبحث عن شهرة أو مجد أو مال وإنما متعته الشخصية وحدها. ولذا تكفل عبر أكثر من خمسين رواية ومجموعة قصصية، بقطع الرحلة التي قطعتها أجيال من الروائيين الغربيين خلال 400 عام. حرق مراحل تطور الرواية من التاريخية إلى الواقعية إلى الرمزية، ولم يعد أمام أبنائه وأحفاده إلا الاندماج في مسيرة الرواية العالمية كتفاً بكتف.
محفوظ رجل الساعة ــ حسب وصف صديقه الكاتب الساخر محمد عفيفي ــ المنضبط رغم أنه يمارس أقصى أنواع اللعب في كتابته، صاحب الذاكرة المتوهجة، الحادة. حتى يومه الأخير، لم تأخذ الأيام من ذاكرته شيئاً، بل كان في جلساته اليومية مع أصدقائه مثل شيخ صوفي، عباراته قليلة، مكثفة تلخص حكمة الكون، وتفيض بالدهشة، كما تعكس ضحكته الصافية التي ترتفع بين الحين والآخر، استهزاءً بهذا العالم التافه!
كانت الثورة حلمه الدائم. «ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد» هكذا تحدث في أصداء سيرته الذاتية. ثورة تمنى أن تدوم وألزم نفسه بها، في الفن والحياة منذ أن بدأ يكتب قصته الأولى: «إني أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسي ملزماً باتباع مثلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق، إذا النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزماً بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل، إذا النكوص عن ذلك خيانة! وهذا هو معنى الثورة الأبدية» وهكذا يقول أحمد شوكت أحد أبطال «السكرية»، وأحد أقنعة محفوظ الروائية.
حلم الثورة هو ما دفعه إلى الثقة، والتفاؤل حتى النهاية، لا لأن الخير سينتصر في النهاية، بل لأن الشر أضعف مما نتصور بكثير: «وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير، ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره» كما قال في كلمته خلال نيله جائزة «نوبل» (1988). هذا التفاؤل هو ما يجعل الناس يتحمّلون البغي بجلد ويتمسكون بالأمل: «وكانوا كلما أضرّ بهم العسف، قالوا: لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار، ولنرينّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب».