النبطية | في النبطية مقبرة «قديمة» وارت موتى من مذاهب مختلفة. وبين «سكّانها»، أيضاً، أصحاب جنسيات مختلفة سقطوا على أرض الجنوب إبان الحرب و«الكفاح المسلح» والاعتداءات الإسرائيلية. أتخم الموتى المقبرة حتى لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من «الراحلين» الجدد.
حلّت الطائفة الشيعية في المدينة، بعدما قدّم أحد ابنائها (الراحل الحاج توفيق نصّار)، في وصيته، 30 دونماً لـ«الوقف الشيعي» لجعلها مقبرة لأهالي النبطية وسكانها من أبناء الطائفة حصراً. يوضح الحاج محمد سلوم معنى «الحصرية» بأنه «حتى لو توفي أحد من بلدة كفررمان الملاصقة عقاريا لأرض المقبرة، ممنوع أن يتم دفنه فيها»، بحسب وصية نصار. ويضيف أنها وقفية خاصة بأبناء الطائفة الشيعية الذين يقيمون في النبطية. «يعني إن كان المتوفى من الهرمل أو من الجنسية العراقية أو السورية أو من أي دولة، ومن الطائفة الشيعية، ويقطن في مدينة النبطية وتوفي فيها، يحق له أن يدفن في هذه المقبرة». ويؤكد سلوم أن نصار «معذور بوصيته. وأثبتت الأيام أنه لو تركت المقبرة مفتوحة لامتلأت اليوم، مع وجود مواطنين من مختلف المذاهب والجنسيات في المدينة، في مقابل أكثر من 50 الف نسمة يشكلون أهلها».
أين يذهب «الآخرون»، إذن؟ المشكلة ليست مشكلة عائلة يمكن أن ترحّل موتاها الى مسقط رأسها الأساسي، بل مشكلة مئات العائلات من الفلسطينيين ومن أبناء الطائفة السنية في المدينة، ممن باتوا جزءاً من نسيجها، وارتبطوا بأهلها بعلاقات مصاهرة، ولهم فيها أملاك وأعمال وحياة... أما ما بعد الحياة، فلا حقّ لهم في وداع لائق. بعض هؤلاء كانوا مع الثورة الفلسطينية، وقاتلوا في صفوفها دفاعاً عن الجنوب، وبعضهم من أهالي القرى الحدودية اللبنانية الذين هُجِّروا عام 1948، وبقوا مكتومي القيد.

المشكلة تطال مئات العائلات من الفلسطينيين ومن
أبناء الطائفة السنية


أحد الذين يتابعون القضية يؤكد أن أرض المقبرة الجديدة قدّمها صاحبها وقفاً، وهي مسجلة عقارياً «لعموم بلدة النبطية من الطائفة الشيعية». يلفت الى أن «أحداً من أبناء المدينة لا يمانع في أن ندفن موتانا فيها، لكن القيمين على الوقف يرون بأنه لا يجوز تغيير الوصية أو العبث بمضمونها». وفي انتظار الحلّ، «نقوم أحياناً بنقل رفات جثة من مكانها لدفن ميت جديد محلها، وهو أمر لا يقبل به لا الدين ولا الشرع».
مجموعة من الأهالي «المتضررين» من هذه الحال، برئاسة عماد دحويش، تكتلوا وحصلوا من وزارة الداخلية على «علم وخبر» لإنشاء «جمعية الاعتماد للخير الاجتماعي»، لمتابعة الموضوع. في محاولة لحلّ المشكلة، لجأت الجمعية الى ما يشبه «الخيال العلمي»: قدّمت اقتراحاً بنزع الرخام عن القبور القديمة وتجميع الهياكل العظمية، وإعادة ترتيبها في محاولة لايجاد متسع لموتى جدد. لكن فاعليات المنطقة رفضوا الاقتراح. بعدها، تم العثور على قطعة أرض ملاصقة للمقبرة القديمة، تصلح أن تكون مقبرة يريدونها «عامة، وليس للفلسطينين فقط، على أمل أن يتوحد المسلمون في الآخرة على الأقل». تحاول الجمعية إيصال الصوت للحصول على تبرعات لشراء الأرض. لهذه الغاية، زار أعضاؤها «المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى»، والنائبة بهية الحريري ومسؤولين في منظمة التحرير الفلسطينية ومتمولين من الجنوب وخارجه وغيرهم، كما طرحوا المشكلة سابقاً أمام مفتي المدينة الشيخ عبد الحسين صادق الذي وعدهم بمتابعة الموضوع بما يقدر عليه... ولكن حتى الآن لا جديد، باستثناء مساعدة قدّمتها بلدية النبطية، وهي «مبلغ عشرة آلاف دولار أميركي كمساعدة من ثمن الأرض. ننتظر تنفيذ الوعود من مرجعيات الطائفتين، ولكن لا بوادر إيجابية بعد، مع العلم أن الموضوع بحاجة إلى حل عاجل».
يسأل سلوم: «أهالي الموتى المسلمون ماذا سيفعلون، وأين وكيف يدفنون موتاهم؟ أيذهبون الى المقبرة القديمة وينبشون القبور ليواروا الجثث، فيما الجثث القديمة لم تبلَ بعد في معظم الأحيان وهذا مخالف للشرع والدين والأخلاق. مسؤولية من هذه؟ وعلى عاتق من في الدولة؟» ويردف: «لا يطلب اخوتنا سوى مقبرة لموتاهم أسوة بسائر البشر».
أحد المتضررين من القضية لديه رأي آخر. يقول إنه في حال توفي والده، سيضع الجثمان في وسط الشارع ويعقد مؤتمراً صحافياً يحكي فيه عن مصيبته وعن مصائب الآخرين!




الوقف على ما وُقِف عليه

مفتي النبطية الشيخ عبد الحسين صادق اهتم بموضوع إيجاد أرض وتخصيصها كمدفن للمتوفين السّنة، منذ أن ضاقت الأمكنة في المقبرة القديمة. وحرص على أن يكون المدفن المذكور لمقابر الشيعة بغية «الدمج وتأكيد الوحدة». لكنه يوضح أن «المرحوم الحاج توفيق نصّار، حين قدّم المدافن الجديدة، أوقفها على أبناء المدينة حصراً. وليس على الشيخ، كولي للوقف، إلا أن يحقق إرادة الواقف تنفيذاً للقاعدة الشرعية التي تقول: الوقف على ما وُقِف عليه».