«... ستظلّ شعوبنا تدفع تبعات هزيمتنا القاسية في الحرب العالمية الأولى، حتى يظهر من يوحّدها مرة أخرى، تحت راية قوي عادل يصفّي آثار الهزيمة»حسن الخلف

سمعت قريباً لي يجزم، كأنها بداهة، بأنّ «أجدادنا كانوا يكرهون العثمانيين» ولا يحبّون النظام ودولته. ثمّ انتبهت أنّنا ــ كأكثر عرب الأطراف ــ لا نعرف أحداً من أجدادنا كان راشداً عام 1908 وعاش مواطناً عثمانيّاً وأخبرنا بهذه الشّهادة. أي أنّ «أجدادنا» في هذه الحالة ولدوا في لبنان الفرنسي، وترجع ثقافتهم الى ما بعد الحرب العالمية الأولى ولم يكونوا يوماً رعايا للسلطان، ونظرتهم الى الموضوع هي كنظرتنا: متأخّرة وانطباعيّة وانتقائية ولا تقوم على تجربةٍ مباشرة.

كما أن هذا الافتراض الشائع ينضوي في أساسه على «اشكالية تاريخية»، لا لأنّه يصعب أن نتخيّل فلّاحاً فقيراً في القرن التاسع عشر يكوّن آراء سياسيّة «استراتيجية» من هذا النّمط بل لأنّه، من جهةٍ، لم تكن الأطراف الزراعية ومجتمعها تتعامل بشكلٍ مباشر (في أغلب الحالات) مع الدّولة وسلطتها حتّى يحقد النّاس على اسطنبول، بل كانت علاقتهم الرّسميّة، إن وجدت، هي مع اداراتٍ محليّة تأخذ أشكالاً مختلفة في امبراطورية لامركزيّة (عائلات محلّيّة في الموصل، مماليك في مصر، مقاطعجيين في جبل لبنان، قادة طوائف، الخ). من جهةٍ ثانية، توجد مغالطة في الحديث عن الدولة العثمانية كأنّها كانت «نظاماً» حديثاً يشبه حكومات اليوم، تحبّه أو تكرهه وتتحيّن زواله، فلم يكن أحدٌ يومها يفكّر في الامبراطورية على أنّها «خيارٌ» حتّى يؤيّدها أو يرفضها أو يفكّر بـ«استبدالها»، بل إنّ أغلب رعايا الدّولة ــ حتى سنوات قليلة قبل انهيارها ــ لم يكونوا قادرين، ببساطة، على تخيّل العالم من دونها.

سرديّات معاصرة

تذكّرت هنا رفيقاً مصريّاً جاء يناقشني قبل فترة في الجدالات التي تنشب بين العرب حول تفسير المرحلة العثمانية، وهل كانت «احتلالاً» أم «خلافة»، دولة استبداد أم دولةٌ عليّة؟ فتذكّرت مباشرة التقسيم الذي كان يقدّمه المؤرّخ الفلسطيني بشارة الدوماني ليبسّط الموضوع لطلّابه. توجد ثلاث سرديّات منتشرة حول التراث العثماني، كان يقول، وكلّها لا علاقة لها بتاريخ الدولة نفسه وقرونها الستّة، بل هي كلّها نشأت في زمنٍ لاحق. أوّلاً، لدينا سرديّة «عصر الظّلام»، التي أنتجتها الأنظمة التي نشأت على أنقاض الامبراطورية، وقد أصبحت عناصر هذه السردية جزءاً من ثقافتنا الوطنية الناشئة إثر الحرب العظمى (من علي الوردي في العراق الى أنيس فريحة في لبنان). ومختصرها انّ الدولة العثمانية (لا انهيارها) هي سبب تخلّفنا واستعمارنا، وأنّ سقوطها شكّل «تحريراً» تاريخيّاً لنا على مستويين: خروجٌ من «الاستبداد التركي» الى الحرية القوميّة، ومن الظّلام والتخلّف الى الحداثة والدّولة العصريّة. بمعنى آخر، الدّولة العثمانية هنا لم تكن سوى «بيتٍ يحترق»، ولا مصلحة لنا في البقاء فيه أو الدفاع عنه ــ على حدّ تعبير نوري السّعيد وأمثاله من الضبّاط الهاشميّين، الذين خانوا رفاق سلاحهم وقيادتهم وسلّموا بلادهم الى الاحتلال الاوروبي؛ وارتضوا بدلاً من الامبراطورية وزارةً أو منصباً في بلدٍ مستعمر (وقد استثاروا كراهية شعبهم حين حكموا، كما في حالة السعيد، حتّى قتلهم).
السّردية الثانية التي شاعت في القرن العشرين معاكسة تماماً للأولى، وهي سرديّة «العصر الذهبي»، وقد روّج لها الاسلاميون العرب (والإخوان تحديداً) في مواجهة الخطاب الأوّل. الدّولة العثمانية هنا هي شيءٌ قويٌّ ومهيب، كانت خلافةً تجمع المسلمين وتحميهم، وسقوطها شكّل نكبةً عليهم جميعاً. هذه السرديّة، التي تراها ايضاً في المسلسلات التركية الجديدة، تكتسب جزءاً من قوّتها بسبب سطحيّة خطاب «عصر الظلام»، الّذي يحوّل السلطان العثماني الى صورةٍ كاريكاتورية عن رجلٍ بدينٍ أجلف يعيش من أجل المتع والنساء، وهي مزيجٌ بين الأدبيات الاوروبية عن الشرق في القرن التاسع عشر وبين قصص ألف ليلة وليلة وحكايات الخلفاء العباسيين. هنا مثلاً، يفاجأ الجمهور العربي ويخسر يقينه حين يكتشف بأنّ نظرته الموروثة عن الدولة العثمانية وسلاطينها لم تكن صحيحة وتاريخية، وأنّ اسطنبول ــ مثلاً ــ كانت تضمّ نخبة حكمٍ ارقى وأكثر فعالية من أيّ شيءٍ عرفه في بلاده، وكفاءاتٍ من أرجاء العالم الاسلامي تناقش السياسة الدوليّة ومسائل التحديث (في كتاب فاتح ارميش عن التاريخ الاقتصادي العثماني، مثلاً، تجد السّلطان يناقش مع الخبراء مسائل معقّدة في السياسة النّقديّة، أو ينصح وزيره ــ اثر أزمة خبزٍ في اسطنبول ــ بأن يتساهل مع الخبّازين في الأوزان ويتشدّد في النوعية، لأنّه يلاحظ أنّ رعيّته تفضّل الخبز ابيضاً ونقيّاً على أن يكون وزنه دقيقاً، الخ. هؤلاء أناسٌ تدرّبوا على فنون الحكم منذ الصّغر، ولا يشبهون الصّورة التي كوّنتها عنهم المخيلة الشعبية المعاصرة).
أمّا السّرديّة الثالثة هنا، فهي غربيّة المصدر، وقد ظهرت تحديداً في المؤسسة الأميركية بعد حرب العراق ودخول اميركا الى المنطقة في مشروعٍ لـ«بناء الدّول» وإعادة تشكيلها: أصبح العديد من المثقّفين الأميركيين يرجّعون «فشل» الشرق الأوسط ودوله الى التراث العثماني ايّاه، وأنّ نظام الملل واللامركزية لم يخلق دولاً قوميّة «طبيعية»، بل خليطاً سكّانياً غير منسجمٍ ولا يشبه دول اوروبا، فعلينا اذاً ــ يذهب المنطق الأميركي ــ الى «تصحيح» التركة العثمانية، وإعادة تقسيم دول الاقليم على أساسٍ «منطقي» اثنيّ، وأن نستدخل تقنياتٍ مثل الفيديرالية ومجالس الطوائف حتى نتمكّن من إدارة هذه «الفسيفساء البشرية» التي خلّفها العثمانيون و«إصلاحها» وتغييرها.

تواريخ موازية

الحقيقة، بالطّبع، هي في مكانٍ آخر وهي خارج السرديّات المثاليّة، سلبيّة كانت أم ايجابيّة، ولكنّ الغريب هو أن الكثير من أبناء عصرنا العربي لا زالوا يتعاملون مع الموضوع بحماسة وحدّة، كأنّهم والعثمانيين في عدواةٍ مستمرّة وحربٍ أهليّة قائمة. حتّى نكون واضحين منذ البداية: السلطنة العثمانية لن «تعود»، ولا يمكن أن تعود؛ المسألة ليست هنا. وسعي الحكام الأتراك اليوم لـ«استعادة» و«إحياء» التراث العثماني، واعتماده مظلّةً لطموحات الدولة التركية الحديثة، ما هي الّا محاولةً لخلق شيءٍ جديد، لا علاقة له بالماضي، وبالاعتماد على تأريخٍ رومانسيّ ومسيّس. وانت، حين تربط بين حكّام أنقرة وبين العثمانيين وتتكلّم عن «عودة العثمانيين» عبر حزب أردوغان فانّك، من جهةٍ، تشوّه التاريخ والحاضر سويّة و من جهةٍ أخرى تُعطي هؤلاء تحديداً ما يريدون: مصادرة تاريخنا وتاريخ أسلافنا واحتكارهم لماضينا العثماني كأنّهم يملكوه، وتشكيله على هواهم ووفق مصالحهم.
دليلنا هنا سيكون الكتاب الفذّ للمؤرّخ مايكل رينولدز «امبراطوريات تتكسّر» (منشورات كامبريدج، 2011)، ونحن لن ندخل حتّى في المضمون التّاريخي للكتاب ــ وهو عن الصراع بين الروس والعثمانيين في السنوات الأخيرة للسلطنة ــ بل سنعتمد أساساً على إطاره النّظريّ وتفسيره لنشوء القوميّات في بلادنا.
البديهية الأولى التي يحطّمها رينولدز هي فكرة «حتميّة» انهيار الامبراطوريات متعدّدة الأعراق في السلطنة والنمسا وروسيا، والتي سقطت إثر الحرب العالمية الأولى، و«حتميّة» استبدال دول الـ«موزاييك» هذه بأممٍ قوميّة. ما يجري هنا بحسب رينولدز هو أنّ إجماع الأكاديميا الغربيّة قد حوّل مسار التّاريخ الى ما يشبه عمليّة «هيغيليّة»، يصبح زوال الامبراطوريات الكبرى فيه هو النّتاج الطبيعي للتاريخ، وانتصار القوميّات العلمانيّة تتويجاً لمساره الحتميّ. تمزج هذه الأدبيات، في منطقٍ صوريّ، بين واقعة تاريخية هي سقوط الامبراطوريات وإعادة تشكيل العالم بعد الحرب العالمية الأولى، وبين نظريات صعود القوميّة في اوروبا الغربيّة؛ فتعتبر ــ مع بينيديكت اندرسون وغيره ــ أنّ التحوّلات الاقتصادية والاجتماعيّة (مثل الطباعة وانتشار التعليم والسياسة الجمعيّة) قد وضعت العالم بأسره في «طريقٍ قوميّ» محتوم، يترافق مع الحداثة. وأنّ حتمية استيقاظ القوميّات واعتمادها إطاراً للسياسة والهويّة هو ما حكم على تشكيلاتٍ امبراطورية مثل النمسا ــ المجرّ والسلطنة بالتفجير من الداخل والفناء. هذا الخطاب، يقول رينولدز، يذهب الى حدّ قراءة التاريخ «بالمقلوب»، فلا يكتفي باعتبار هذه الامبراطوريّات «خارج التاريخ» ومخالفة لقواعده، وأنّ زوالها كان طبيعيّاً، بل هو يقرأ ماضي هذه الدّول بعين الحاضر، كأنها كانت «تحبس» أو «تقمع» هذه القوميّات، التي احتاجت الى انهيار الامبراطورية حتّى «تزهر» (فيصبح الحكم العثماني مثلاً ــ حتى في قرونٍ سبقت المدّ القومي ــ «احتلالاً تركيّاً» للعرب واليونان والبلغار، وتصبح روسيا القيصرية «سجن الشعوب»).
هذا الخطاب، يقول رينولدز، لا يستقيم مع وقائع التّاريخ لثلاثة أسباب. أوّلاً، ما يجمع بين دولتي هابسبورغ وبني عثمان، وما سبّب انهيارهما هو ليس طبيعتهما المتنوّعة وتعدّد الأعراق بل، ببساطة، أنّها هزمت في الحرب الأولى وزالت بسبب ذلك، والّا (وهذا كان احتمالاً قريباً، أقرب بكثير من التنافس في الحرب العالمية الثانية) لانتصرت واستمرّت وأمّنت استقراراً لعقودٍ قادمة ولربّما نجحت في محاولاتها التحديثيّة وأعادت اختراع نفسها، كما فعلت مرّاتٍ عديدةٍ في الماضي. ولكانت القوميّة العربيّة والدّعوات الانفصاليّة هنا، هي التي تقف خارج التّاريخ، ولسُحقت أو ظلّت كما كانت يومها في أوائل القرن (حركات فكريّة وسياسية صغيرة لا حاضنة شعبيّة لها في الوطن، وأكثر دعاتها أقلويّون ومرتبطون بالغرب).
ثانياً، يقول رينولدز، فإنّ الرابطة السببية التي يستسهل البعض اعتمادها تفسيراً، بين انتشار الحداثة والتعليم من ناحية و«استيقاظ» الحس القومي من ناحية أخرى، لا نجدها في الأقاليم التي انفصلت عن السّلطنة. مستوى التعليم والأمية والطباعة في دولٍ مثل بلغاريا وصربيا ورومانيا لم تكن تختلف، يوم «استقلال» هذه الدول، عمّا كانت عليه في القرن الثامن عشر، ولم تكن هناك حركات قوميّة فعلية وشعبية حتى تمّ تشكيل هذه البلاد.
ثالثاً، وهذا الأهمّ، فإنّ اساس الهويّة ومحرّك التاريخ في مذهب رينولدز هو سياسات القوّة وليس أيّ شيءٍ آخر. فالحركة القوميّة، لو لم تتمظهر في دولة ونظام له مؤسسات وجيش ومدارس، لما كان لها مكانٌ في التاريخ، ولو لم يكن الجوّ الدّولي مناسباً، لما حازت هذه القوميات «دولها». والحال هي أنّ أغلب الدول التي نشأت من كنف السلطنة قد خرجت وتمّ رسم حدودها بسبب التنافس الدولي والارادة الاوروبية والهزيمة في الحرب أمام الأجانب، وليس الثورات الشعبية أو ظروفٍ داخليّة (وهذا ينطبق على بلغاريا واليونان كما ينطبق على دولنا في المشرق ــ مع احترامنا لكلّ الأساطير القوميّة والاثنية والطائفيّة).
كمثالٍ على هذه الفكرة، قرأت مؤخّراً نصّاً لباحثٍ عربيّ يقارن فيه بين ايران والسلطنة العثمانية، ويجزم بأنّ سبب تقسيم السلطنة وبقاء ايران موحدة هو أنّ الأولى كانت متعدّدة الاثنيات فيما الثانية لها طابع قومي «فارسي». هذه الخلاصة تختزل كل الأخطاء التي يتكلّم عنها رينولدز: الدولة العثمانية وإيران لم تختلفا في تكوينهما وسبل ادارتهما، والاثنتان كانتا امبراطوريات متعددة الأعراق والأديان؛ من هذا المنظار يُصبح علينا أنّ نفهم ايران على أنها بلدٌ ذو أغلبية فارسيّة تحكمها السلالات التركيّة، منذ السلاجقة والصفويين وصولاً الى «رضا خان قوزاق» (هكذا كانوا يسمّونه في ايران في بداياته). السياسة الدولية سارت، ببساطة، لصالح تقسيم السلطنة في حين ساعد التنافس البريطاني الروسي على إبقاء إيران موحّدة، ومنع ضمّها بشكلٍ رسميّ من قبل أحد. ولو اختلفت مصالح اوروبا ومسرح سياستها قليلاً، لرأينا بسهولة تقسيم ايران و«نهضة قوميّة» فيها هي الأخرى، ودولة اذرية في الشمال الغربي وكردية في الغرب وفارسية في الوسط؛ ويحصل العرب على امارة في الجنوب الغربي ومثلهم البلوش في الشرق، وتنفصل خراسان عن محافظات فارس التاريخية (في أوائل القرن العشرين، لم تكن الصدامات في ايران تقع بين الدولة والمعارضين، بل بين «الروس» و«السويديين»، أي الوحدات التي يقودها مرتزقة من بلدٍ اوروبي ضدّ آخر، في مرحلة استسلمت فيها الحكومة بالكامل لإرادة الخارج وهيمنته).
الهدف هنا هو ليس تخيّل تاريخٍ مخالف أو استعادة ما سبق، بل أن نفهم كيف وصلنا الى هنا، وأن نتحرّر من خرافاتٍ تقيّدنا وتشوّه نظرتنا الى أنفسنا والى ماضينا، وتبقينا في حالة ضياع هويّة تزداد تفاقماً وتهدّد بمزيدٍ من التشظّي. المدخل الى الفهم، في رأيي، يبدأ مع أحداث الحرب العالميّة الأولى، ومن الضروريّ أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع أسلافنا وماضينا ونحن ندخل مرحلةً تاريخيّة جديدة، شرسة وصعبة على مستوى العالم ــ قد تشابه ظروف القرن التاسع عشر الذي فشل العثمانيون في التعامل معه ومع تحدّياته، فسقطوا وأورثونا الهزيمة والانكسار. حين نبني من البداية، يجب أن نختار المثال الصحيح، وهو ليس نوري السعيد والشريف حسين وأولاده كما تقول لنا الكتب المدرسيّة، بل مئات آلاف العراقيين الذين قاتلوا البريطانيين والعملاء، في ثورة العشرين، تحت راية الخلافة، وكانوا نقطةً مضيئة في ذلك الليل الحالك الطويل، الذي لم يزل مستمرّاً إلى اليوم (يتبع).