كما كانت فكرة التقدم بمشروع قانون للنفايات قبل الاستراتيجية منذ أكثر من عشر سنوات غير منطقية، كذلك طرح إقرار القانون نفسه الآن في ظرف ثلاثة أسابيع لا تخلو من تسرّع. فالسبب الرئيسي الذي حال دون إيجاد حلول مستدامة لقضية إدارة النفايات على أنواعها في لبنان، تاريخياً، هو في عدم اتباع خطة طريق تقوم على وجود استراتيجية شاملة لمعالجتها، وضعتها الدولة ضمن معايير بيئية وعلمية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية... وعدم اتباع المنهجيات السليمة للمعالجة والسلم المفترض اتباعه للوصول إلى الغايات والأهداف.
تستند هذه المنهجيات إلى فلسفة بيئية عامة، ينتج عنها استراتيجية بيئية شاملة، ينتج عنها استراتيجية خاصة لإدارة النفايات ضمن مبادئ محددة ومن ثم سياسات ومشاريع قوانين خاصة تضعها وزارة البيئة ويتبناها مجلس الوزراء (ومن ثم مجلس النواب) وتترجم في مراسيم وقرارات وزارية تنظيمية وخطط ودفاتر شروط ومناقصات وتلزيمات وآليات مراقبة، قابلة دائماً للمراجعة والتعديل والتطوير.
في مشروع القانون المحال على مجلس النواب عام 2012، والذي تدرسه الآن لجنة فرعية تمهيداً لإعادته إلى اللجان المشتركة من جديد، مادة تقول إن وزارة البيئة هي التي ستقترح الاستراتيجية، ولكن بعد فترة لا تزيد عن 12 شهراً من تاريخ صدور القانون! مع العلم أن في مشروع القانون المؤلف من 41 مادة، هناك الكثير من المواد التي تنص على "تطبيق الاستراتيجية"، في إشارة واضحة ومنطقية إلى ضرورة أن تسبق الاستراتيجية فعلاً القانون، فلماذا تمّ إهمال وضع هذه "الاستراتيجية" كل تلك السنوات (وحتى الآن)، لنعودَ اليوم إلى مناقشة مشروع القانون وإقراره على عجل من دون وجود هذه الاستراتيجية؟!
فكيف سيتمّ إقرار قانون لإدارة النفايات إذا لم يكن هناك استراتيجية مبنية على تقييم واقع النفايات وبعد درس المعطيات وإذا لم نأخذ بالاعتبار الكثير من العوامل المؤثرة في إنتاج النفايات...إلخ
بعد الأخذ بالاعتبار كل هذه العوامل، ترسم الدولة استراتيجية مستدامة لعلاج النفايات مع دراسة الآثار البيئية وغيرها من العوامل مثل الكلفة المالية، توافر التكنولوجيا، وتوافر السوق والجودة بالنسبة للمواد المُعاد تدويرها والسماد العضوي...الخ.
بالإضافة إلى دراسة المعطى من المشكلة (تاريخية المشكلة والنوعية والكمية وأماكن المعالجة وأنواعها والمكبات ووضعها...) التي يفترض أن تنطلق منها الاستراتيجية والتي يفترض أن تترجم في القانون. كما يفترض بالاستراتيجية أن تحدد المبادئ التي يستند إليها هذا القانون والأولويات فيما بينها. فما هي هذه المبادئ؟
صحيح أن مشروع القانون يعطي "مبدأ العمل الوقائي والتخفيف من إنتاج النفايات الصلبة" الأولوية الأساسية على غيرهما من الوسائل الأخرى من إدارة النفايات الصلبة في لبنان وذلك بهدف تقليل آثارها السلبية على البيئة... إلا أنه لا يحدّد كيف يفترض ترجمة "مبدأ التخفيف" والذي يمكن أن يطلق عليه أيضاً اسم "مبدأ التجنب". كما لا يحدّد أية مبادئ أخرى شارحة ومحددة يفترض اتباعها؟ وهو يفتقر إلى الكثير من المبادئ الاستراتيجة كمثل "المسؤوليات البيئية" وتوزعها وتدرجها بين المنتج والمصنع والمسوّق والتاجر والمستهلك، كل بحسب مساهمته في إنتاح النفايات. كما لا يشدد على مبدأ "حق المعرفة" وضرورة إقرار تشريعات وقوانين تضمن حق المواطن- المستهلك بالوصول إلى المعلومات ومعرفة الكلفة الحقيقية للإنتاج ومكوناته. فعدم معرفة حقيقة الإنتاج، أو تلقي معلومات خاطئة، يعتبر شكلاً من أشكال التسمم المعرفي أيضاً، والذي يمكن أن يقودنا إلى الموت. ولا يتضمن مبادئ تشدد على "تعديل الأسعار لتعكس الكلفة الحقيقية لإنتاج السلع"، بما فيها تكاليف الاستخراج ومدى ندرة الموارد وتأثيرات الاستخراج والتصنيع والنقل والتسويق والاستهلاك على الهواء والماء والتربة وعلى تغير المناخ وتكاليف معالجتها بعد أن تتحول إلى نفايات... بالإضافة إلى الكلفة المترتبة على الأجيال الآتية في حال لم تكن المعالجة نهائية.
فلم يعد مقبولاً تقليل سعر أي سلعة، لدواعي المنافسة والربح، في وقت دمر أثناء إنتاجها موارد أولية كثيرة، وتسببت عمليات الإنتاج بتلوث المياه الجوفية والتربة أو مياه البحر، والإضرار بصحة العامل... وحصل جراء تحولها إلى نفايات انبعاثات بالهواء تضرّ بالصحة العامة وبالمناخ المحلي والعالمي وتسربات تضرّ بالتربة والمياه الجوفية. فما وفرناه في سعر السلعة، قد ندفعه مستقبلاً في معالجة الأمراض الناجمة عن تلوث الهواء والماء والغذاء، وفي التسبب بمشاكل إضافية، لا يمكن تقديرها في المستقبل.
وبسبب عدم وجود استراتيجية، خلط القانون بين تمويل عملية معالجة النفايات والرسوم التي يفترض أن يجبيها وبين الضريبة البيئية التصحيحة. يلعب النظام الضرائبي عندنا دوراً سلبياً جداً ضد فكرة الاستدامة. فهو يشجع الاستهلاك ويراكم النفايات ولا يأخذ بالاعتبار ديمومة الموارد وكلفة معالجة النفايات. وهو نظام يرهق الرواتب ويدمر البيئة. وهو يشجع على الغش والاحتيال والتلاعب، والتهرب من دفع الضرائب أيضاً.
كما يتجاهل مبدأ الاسترداد، لا سيما في موضوع النفايات المنزلية الخطرة التي في معظمها مستوردة ويفترض أن ترد الى المصنّع، بدل البحث في حرقها أو طمرها. وتشجيع تطبيق مبدأ "التصنيع المستدام" أي تشجيع تصنيع المواد التي تتحول نفاياتها غذاء لمنظومة حية أخرى. وتطبيق مبدأ "الاستئجار بدل التملك" للكثير من السلع. وغيرها الكثير من المبادئ والإجراءات التي يهملها تماماً. فهل نتسرّع مجدداً، بعد أن أضعنا الكثير من الفرص لإنتاج استراتيجية، حتى غرقنا في نفاياتنا؟!


* للمشاركة في صفحة «بيئة» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]