كل البلدان العربية المنتجة للبترول أو الغاز، من دون استثناء، بما في ذلك إقليم كردستان العراقي، أو حتى البلدان العربية غير المصدرة للبترول أو الغاز مثل الأردن والمغرب، أصبح لديها شركاتها الوطنية، التي أوكلت إليها مهمات إدارة وتطوير شتى مراحل صناعة البترول والغاز. وهذا ما حصل أيضاً في بلدان أوروبا الغربية والشرقية، وفي البلدان الأفريقية والآسيوية وأميركا الجنوبية، وطبعاً في الصين وروسيا وغيرها من بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً. فلماذا يا ترى يبقى هذا الوضع الشاذ في لبنان ويستمر؟
لا يزال البعض في لبنان يتساءل عن جدوى تأسيس شركة بترول وطنية، ويذهب البعض الآخر الى حد التحذير من مخاطر إنشائها. ما هي أسباب هذا الوضع غير الطبيعي؟ وما هو الفرق بين لبنان وسائر بلدان العالم التي تجاوزت منذ عقود هذه التساؤلات والهواجس، وأصبح لديها شركات بترول وطنية تحتل مكان الصدارة في صناعتي البترول والغاز في العالم؟
الجواب عن ذلك هو، بكل بساطة، أن الغاية الأساسية والبديهية من إنشاء شركة بترول أو غاز وطنية هي خلق أداة تنفيذ سياسة بترول أو غاز وطنية، أي سياسة قائمة على تأمين مصلحة جميع المواطنين، عبر الدولة، وليس مصالح خاصة أو طموحات ومآرب أجنبية. أما في حال عدم وجود شيء يمكن تسميته سياسة بترول أو غاز وطنية، فمن الطبيعي أن تصبح مسألة تطوير شركة وطنية، في مجالي البترول والغاز أو غيرهما، عرضة للانتقاد والممانعة والتشكيك، كما هي الحال في لبنان.

حصة الشركات
الوطنية في الإنتاج العالمي قفزت
من 7% إلى أكثر من 80%


لذلك لم يكن من باب الصدف أن يبدأ تطوير شركات بترول وطنية، منذ ما لا يقل عن قرن من الزمن، في دول متقدمة تتمتع بحقوق السيادة، أي قادرة على رسم وانتهاج سياسة بترول وطنية تتماشى ومصالحها الخاصة، وتحميها من هيمنة شركات البترول العملاقة، التي  كانت تسمى "الأخوات السبع»، والتي كانت وقتئذ تسيطر على صناعة البترول في العالم أجمع، من حقول الإنتاج الى محطات توزيع المشتقات في أسواق الاستهلاك، مروراً بالنقل والتكرير والبتروكيمياء وتقاسم الأسواق والتفرد بتحديد الأسعار.
على ضوء هذا الواقع، ليس مستغرباً أن تكون أولى شركات البترول الوطنية (أو الحكومية لتمييزها عن شركات البترول العالمية الخاصة)، قد تم تأسيسها، حسب الترتيب الزمني، في إنكلترا (British Petroleum) في عام 1914، والأرجنتين (YPF) في عام 1922، وفرنسا (CFP) في عام 1924، ثم (Elf وTotal)، وإيطاليا (Agip ثم ENI) في عام 1926، والمكسيك (Pemex) في عام 1938، والبرازيل (Petrobras) في عام 1953، والهند (ONGC) في عام 1956. تضاف إليها الشركات الأوروبية Repsol في إسبانيا، وMOL في النمسا، وDeminex في ألمانيا، وStatoil في النروج، الخ...
بعدما شقّت الدول الصناعية الأوروبية وغيرها من الدول المستقلة طريق تطوير شركات بترول وطنية، كان من الطبيعي أن تسلك الدول النامية المصدرة الطريق نفسه بعد انتزاع استقلالها السياسي. لذلك، فإن المنعطف الحاسم الذي قاد الى الوضع الراهن لصناعة البترول والغاز في العالم كان في أعقاب التأميمات التي بدأت في المكسيك عام 1938 وإيران عام 1951 (بقيادة محمد مصدق)، ثم في الجزائر وليبيا والعراق في سبعينيات القرن الماضي. وقد رافق ذلك تلقائياً إنشاء شركات نفط وطنية. أما السعودية وغيرها من دول الخليج العربي، فقد استعاضت عن التأميم المباشر باستملاك موجودات الشركات الأجنبية صاحبة الامتيازات القديمة، وإحلال  شركات وطنية محلها.
نتيجة هذا التبدل الجذري في هيكلية صناعة البترول العالمية، قفزت حصة الشركات الوطنية من حوالى 7% من  مجموع إنتاج البترول في العالم قبل أربعة عقود الى أكثر من 80% حالياً. كما ارتفعت حصتها من الاحتياطي العالمي الثابت وجوده خلال الفترة نفسها من أقل من 9% الى حوالى 91%. ولا يقل أهمية عن ذلك أن الشركات الوطنية تمكنت بأسرع مما كان متوقعاً من اكتساب الخبرات الفنية والإدارية اللازمة، الى أن أصبحت تقوم اليوم بالقسم الأكبر من الأنشطة التي كانت محصورة بالشركات الأجنبية قبل عملية التأميم. من الأمثلة العديدة على ذلك شركة "أرامكو" في السعودية، وشركة "سوناطرك" في الجزائر، وشركات النفط الوطنية في إيران والعراق ودول الخليج العربي وماليزيا وغيرها في شتى أنحاء العالم. كما أن نسبة الاحتياطي الى الإنتاج (Reserves-to-production ratio) ارتفعت نتيجة لذلك الى 78 سنة حالياً بالنسبة إلى الشركات الوطنية، في حين تراجعت الى 13 سنة للشركات العالمية. 
هذا الانقلاب رأساً على عقب لأسواق البترول والغاز العالمية رافقته إعادة توزيع للأدوار والصلاحيات، كان من أبرزها تكاثر وتعاظم دور شركات الخدمات التي أصبحت تعرض خدماتها وتنافس الشركات البترولية التقليدية في تعاطيها مع الشركات الوطنية. وفي طليعة شركات الخدمات هذه "شلومبيرجيه" و«هاليبارتون" و«ويزرفورد" و«بيكر هيوكز" و«فلييور" و«ترانساوشين" وغيرها، ما يعطي الشركات البترولية الوطنية مرونة كبرى لاختيار من يناسبها، كلما اقتضت الحاجة، بين الشركات البترولية التقليدية وشركات الخدمات.
(غداً: العودة إلى نظام الامتيازات القديم... بترولياً)