لم تنته تداعيات، وكذلك دلالات، تصدي الدفاعات الجوية السورية للاعتداءات الإسرائيلية فجر السبت الماضي، وربما أيضاً لن تنتهي. من ناحية تل أبيب، هي مؤشر حسي على بدء مسار مقاربة جديدة صدر قرارها من القيادة السورية وحلفاؤها، في حين أنها (إسرائيل) معنية بمنع تشكل هذا المسار، أو الحد من فعاليته وتأثيره.
أمس، كشف الإعلام العبري أن الرقابة العسكرية سمحت بعد ستة أيام على مواجهة السبت الماضي بالحديث عن أن قرار إغلاق مطار بن غوريون جاء نتيجة طبيعية لتحليق الصواريخ السورية فوق حيفا وتل أبيب قبل أن تسقط في عرض المتوسط، وهي معلومة حرصت إسرائيل على أن تبقيها مخفية عن جمهورها، طوال الأيام الماضية، إذ كان من الصعب على الإسرائيليين «هضم» كل حقائق ونتائج المواجهة دفعة واحدة، منعاً لتداعياتها السلبية على إدراكهم ووعيهم وثقتهم بقدرات جيشهم.

وصول الصواريخ السورية إلى تل أبيب يعادل النتيجة المحققة بإسقاط الطائرة

اللافت أن تقارير «السماح بالنشر» عادت وتراجعت عنها وسحبت من التداول الإعلامي العبري، ومحو الخبر من جذوره. تراجع الرقابة بعد ساعة واحدة عن نشر الخبر، أو بالأحرى السماح بنشره، يشير إلى استمرار الإرباك الإسرائيلي وتذبذب الرواية الرسمية حول ما جرى فجر السبت، كما يؤكد أن الرواية الإسرائيلية منقوصة. هنا يثار سؤال: هل وقع الرقيب العسكري في خطأ تقدير وسمح بما لا يمكن السماح بنشره؟ الواضح أن الإجابة هي نعم كبيرة؛ تحليق الصواريخ السورية فوق تل أبيب من دون حراك ورد فعل إسرائيليين، وخاصة تجاه حادث وتطور خطير كهذا، هو معطى إضافي كاشف لحقيقة الموقف الإسرائيلي الذي يتيح لتل أبيب فقط «محدودية استخدام القدرة» العسكرية، ومنع التمادي عنها.
في المقابل، الواضح أن الرد السوري كان خارج كل التوقعات المفترضة إسرائيلياً، حتى مع التقدير النظري بصدور القرار السوري بالتصدي. ووصول الصواريخ السورية إلى تل أبيب يعادل، إن لم يكن يزيد، النتيجة المحققة بإسقاط طائرة «الإف 16» فوق الجليل الأسفل، ويراكم على قرار التصدي فعالية وتأثيراً أكثر مما كان ملحوظاً ابتداءً. وإذا كان الرد السوري الأول جاء على هذا المستوى، فكيف به في حال تقرر الرد على المجازفة الإسرائيلية إن قررت تل أبيب معاودة الاعتداءات؟
مع ذلك، من المرجح أن تكون المجازفة الإسرائيلية مقبلة، ليس لأن تل أبيب لا تدرك خطورتها وإمكاناتها في التدحرج نحو مواجهة واسعة تخرج عن حيزها الموضعي، وهي مواجهة لا تريدها، بل لأن التداعيات السلبية لامتناعها وكفّ يدها عن الساحة السورية أكبر بكثير مما يمكنها تحمله. في هذا الإطار، وإمعاناً في الدفع نحو تجاذب الموقف والقرار، جاء تصدي الدفاعات الجوية السورية قبل يومين للطائرات الإسرائيلية التي اقتربت من الحدود في الجولان في طلعات تجسسية هي الأولى من نوعها بعد مواجهة السبت، ولا يبعد أن تكون محاولة «اختبار» جدية القرار السوري بالتصدي، الأمر الذي سيشكل معطى رئيسياً يحضر على طاولة القرار في تل أبيب، يشير إلى أن مستوى المخاطرة والمجازفة سيكون كبير جداً.
ترميم مضحك للصورة
أحد أهم مركبات القدرة الإسرائيلية، إلى جانب الاقتدار العسكري المادي الذي ليس بإمكان أحد إنكاره، هو نظرة الطرف الثاني، أي أعداء تل أبيب، إلى القدرة الإسرائيلية والحيز الذي تحتله هذه النظرة في وعيهم، وهي صورة عملت إسرائيل على زرعها في الوعي الجمعي العربي، وحفرت عميقاً في هذا الوعي إلى الحد الذي دفعهم إلى الاعتقاد بأن إسرائيل صاحبة الاقتدار الكامل والشامل على تحقيق مصالحها مهما كانت قدرة أعدائها على صدها أو مواجهتها. هذه الصورة/ الهالة هي التي مكنت الإسرائيلي من تحقيق مصالحه من دون حتى استخدام القوة العسكرية، وضمن معادلة: شاء الإسرائيلي فتحققت مشيئته.
على هذه الخلفية، تداعي صورة إسرائيل وهالتها في أهم مركب من مركبات قدرتها الفعلية أمام أعدائها يفسر الاستماتة إلى حد إثارة الدهشة، وربما أيضاً السخرية في محاولة ترميم صورة الخسارة التي لا يمكن ترميمها، كنتيجة واضحة لا لبس فيها، لمواجهة السبت. وفي ذلك، نورد مثالين اثنين لا أكثر للدلالة على الاستماتة الإسرائيلية، أحدهما صادر على لسان وزير إسرائيلي، والثاني ورد في تقرير إعلامي، وعليهما يمكن القياس.
وزير الشؤون الاستخبارية، وهو عضو «المجلس الوزاري المصغر»، يسرائيل كاتس، أراد ترميم الصورة عبر اختلاق خسائر لحقت بالوجود الإيراني في سوريا، لعله يوازن الخسارة، فقال: «ما حدث في الأمس كان نتيجة سيئة جداً للإيرانيين. إيران ستحتاج إلى وقت طويل جداً لتدرك ما حدث لها، ولتدرك ما منيت به من خسائر!».
المثال الثاني جاء تعليقاً على إسقاط الطائرة الإسرائيلية وورد في تقرير للقناة 13، وفيه: «يجب النظر إلى الصورة بشكل أوسع ومقارنة الخسائر بين الجانبين. سقط لإسرائيل طائرة إف 16 ثمنها يتجاوز 50 مليون دولار، بينما في المقابل سقط لإيران طائرة مسيرة من دون طيار هي الأكثر تطوراً في العالم وثمنها يصل إلى عشرات الملايين من الدولارات». «كل ذلك»، يضيف التقرير العبري، «مع الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من ثمن الطائرة الإسرائيلية يأتي من المساعدة المالية للولايات المتحدة المخصصة سنوياً لإسرائيل، وهذا يظهر بالأرقام الجهة الخاسرة والجهة التي انتصرت!».