أنا الآن هناك

خلق الله جميعا امام المعبر الذي يشطر مدينة رفح الى شطرين. جانب مصري نقف فيه الآن، وجانب فلسطيني دونه تراخيص وأذونات ظننا أننا انجزناها كلها. هي الحدود إذا. وكما على كل حدود، يعج المعبر بالمسترزقين من صرافين وحمالين وباعة شاي وقهوة ومسافرين حائرين بامتعتهم الكثيرة وسيارات اجرة وباصات.

يسلمني السائق، الذي أرسله زميل في الداخل الفلسطيني، الى حمّال هنا ويوصيه ان لا يتركني إلا وأنا في الباص المتجه الى غزة. لا احد ينظر اليك في عينيك. يتحدثون عني وكأني غير موجودة أو لا أفهم العربية. يقول الحمّال، يوسف، للشرطي على باب المعبر "خللي هادي تفوت"يقصد بعد البوابة. يسأل الشرطي المصري عن جواز السفر وسبب الدخول. أعطيه الجواز فيطلب إلينا أن نقف على الباب. أشرح له أنه علينا أن ننادي موظف المركز الإعلامي المصري في الداخل لكي يرافقنا في إنجاز معاملاتنا على الجانب المصري، كما أوصتنا القاهرة. إلى أن يصل، أقف أمام باب المعبر. يحاول الحمّال الإصرار على إدخالي الى داخل المعبر منعاً للمضايقات على ما يبدو. أطلب اليه أن ننتظر كغيرنا قائلة "معليش القانون قانون". فيرد وهو يهز رأٍسه للتدليل على انه فهم عليّ "صحيح والله. القانون لا يحمي المغفلين"!

يلحّ أحد الصرافين من بدو سينا، لكي نصّرف نقودنا من عنده. ينادي على بضاعته وهو يلوّح برزمة من الأموال على عادة الصرافين، ولكن أمام وجهي "جنيهات؟ دولار ؟ يورو؟ شيكل؟ دينار أردني"..أشيح عنه وقد أغضبني ذكره للشيكل تحديداً. يعاود الكرّة فألتفت إليه لأقول بحدّة إني لا أريد تبديل العملة ولا أريد شيكلاته. فيردّ هازئاً : "لبنانية أكيد..موش كدة؟"، مردفاً :"يا سلام على زحلة!" . أما لماذا زحلة؟ فلأمر تفسيره عند الله.

أخيراً. الشرطي في داخل المعبر يدعوني إلى الداخل لأنتظر "عادل" موظف المركز الصحفي في مكتبه. نتجاذب أطراف الحديث ونساله عن الزحمة في الخارج، فيشكو انه منذ الثورة لا هيبة للشرطة هنا على الناس. يصل عادل، ويرافقني الى الداخل. الأمور تجري بسهولة فائقة. من مكتب الى مكتب، تنتهي المعاملات بنصف ساعة. أستبشر خيرا. "الهيئة ميسّرة" اقول في نفسي. لا بل ان عادل يطلعني، زيادة في حسن المعاملة، على وجود سوق حرّة هنا لو أردت ان اشتري شيئا. سوق حرّة من نوع فريد: غسالات برادات أفران غاز وكهرباء، مكيفات..سوق حرة من الوزن الثقيل. نخرج مع المحظوظين بإنتهاء المعاملات الى باص متوقف في باحة خلفية لمبنى الأمن المصري. نقطع تذكرة بخمسة وعشرين جنيها لكي يوصلنا الى الناحية الفلسطينية من المعبر. ننتظر حتى يمتليء الباص بالمسافرين. ساعة اخرى. وأخيراً، يتحرك الباص بإتجاه المركز الفلسطيني الحدودي. ألصق وجهي بالشباك. لا أريد أن يفوتني أي تفصيل. يتحرك الباص من الباحة لنخرج من بوابة تبعد حوالي عشرين مترا عن باب الخروج وإذ بالباص يتوقف. ماذا حصل؟ أسأل الراكبة الى جانبي من خان يونس، فتنظر اليّ ضاحكة وهي تشير الى يافطة كبيرة تقول "أهلا بكم في قطاع غزّة بوابة فلسطين الجنوبية":" لقد وصلنا". لم أفهم! طلعنا بالباص لنقطع مجرد عشرين متراً؟ يضحك الفلسطينيون ويقول لي احدهم كمن خبر الحياة هنا:" آه وللا؟ عادي. هيك هنا". من المفاجأة، نسيت حقيبتي في الباص، أعود راكضة فأجد السائق يفتش عني. أسحب حقيبتي خلفي واقف بالصف امام شباك الأمن الذي عليك أيضا أن تقطع منه تذكرة للباص الذي سيخرجك من المعبر بقيمة...5 شيكل! يا إلهي. سأتعامل بالشيكل؟ لا أستطيع. يعود إليّ وجه الصراف الهازيء. أسأل الموظف:" هل أستطيع الدفع بالجنيه المصري؟" فيجيب بالإيجاب، لكن أحد الشبان، يخرج من جيبه بشهامة قطعة خمسة شيكل معدنية (دولار وربع تقريبا) ويشتري لي تذكرة. حسناً، حللناها الآن ولكن، ماذا بعد؟ ماذا سأفعل فيما بعد ؟. أسأل الشاب إن كانوا في القطاع يتعاملون بعملة أخرى غير الشيكل، فيقول إنه من الممكن أن أدفع بالدولار او اليورو "بس رح يردوا لك الصرافين والبياعين البقية بالشيكل طبعاً..يعني مضطرة تصرّفي شيكل لأنه ضروري للحياة اليومية ". أقف متفكرة: كيف سأنفذ من هذه المصيبة؟ ثم أقرر تأجيل التفكير. لا أريد لأي شيء أن يشوّش عليّ لحظة لقائي بفلسطين. تحين مني التفاتة للجدار العازل الذي شرع ببنائه نظام مبارك خلال الحصار على غزة. ثم اسمع إسمي.. أبتسم وأتقدم لأسلًم على الزميل شعيب أبو جهل مراسل "مخيمات" في "الاخبار" والذي دخل المعبر ليستقبلني ويصطحبني الى الفندق.

لكن، تبيّن ان الأمور أعقد بقليل من المتوقع. فقد تبيّن أن من نسقنا معه من الجانب الفلسطيني من بيروت، نسي أن يرسل إسمي، ومعاملة الدعوة، الى المعبر! هكذا، كان علينا أن نقوم بإتصالات مكثفة لنقنع موظف الأمن بتركنا ندخل، وبأننا لم نستهن به وبإجراءات الأمن في غزة، بل على العكس، طلبنا إذناً قبل المجيء تماماً كما فعلنا مع المصريين، وأن الخطأ ليس خطأنا. أفلحت الإتصالات.. بإستضافتنا في صالون "الفي آي بي"، قاعة استقبال الشخصيات، حتى تحلّ الأمور. أتصل الناطق باسم الخارجية ثم الداخلية، إلا إن الموظف عاند: يجب علينا الإتصال بمسؤوله الأمني. يحاول الكثيرون إقناعه. عبث. بعد "اللتيا والتي" كما يقال، ولحوالي ساعتين من"التنسيق" والإنتظار وشرب القهوة وتبادل الإبتسامات والإعراب عن النوايا الطيبة، يُستدعى الموظف "لكلمتين" في الداخل، ثم يأتي موظف آخر، مبتسم ولطيف، يحمل دفتراً مخططا كدفاترنا المدرسية للغة العربية. يسألني معلومات عن سكني في بيروت وعملي، تؤخذ أيضاً بيانات الزميل الفلسطيني ورقم هاتفه. ثم يعود الموظف المعاند مع استمارة لأعبئها، ونتفق ان نتواصل مع مسؤوله بعد دخولنا.

هل أعتبر أن منطقة الحدود الفلسطينية هي فلسطين ايضاَ؟ أفضّل أن لا أعتبرها كذلك. لا أريد لهذه "الحادثة" أن تقترن في ذاكرتي بدخولي الأول الى فلسطين. أطلب الى زميلي التوقف بالسيارة بمجرد الخروج من المعبر لغرض ما في نفسي. يبتسم وهو يمسك بكاميرته. هكذا، خرجنا من بوابة المعبر التي يعلوها العلم الفلسطيني الخفّاق في هواء غزة..الى فلسطين.

انا الآن "هناك"! كمٌّ من المشاعر تتلاطم في قلبي وعقلي. أكاد لا أرى شيئاً لكثرة ما أرى. أرى كل شيء ولا أرى شيئاً. يجب ان أستوعب بسرعة كيف يصبح "الهناك" المستحيل، ببساطة..هنا. أترجل من سيارة التاكسي ذات االلوحة الخضراء العمومية. امامي تمتد حقول من البازيلاء، وفي الأفق بيوت متفرقة، متواضعة، أشبه بقرى البقاع عندنا. على مدخل المعبر، كما كل معبر حدودي، الكثير من المسترزقين. أنظر الى الأرض التي أقف عليها بعد الخطوة الأولى، خطوة واحدة. هذه هي أرض فلسطين؟ أتسمر مكاني لا أجروء على القيام بتلك الحركة أمام كل هؤلاء الناس. لم أكن أحسب ان عيون الناس ستكون شاخصة اليّ، ربما لأني السيدة الوحيدة هنا. أنظر بحيّرة، وعيوني ممتلئة بدموع أموّهها تحت نظارتي الشمسية، الى الأرض الرملية البيضاء تحت قدميّ، والتي إختلطت بكل أوساخ أحذية العابرين. كيف أفي ندري في تقببل أرض فلسطين التي وصلتها للتو؟ لم اكن أعلم أنه يمكنني أن أدوس على ارض فلسطين؟ كنت أظن أن هذه الأرض يمكن فقط تقبيلها. هذا التراب..واقعي جداً. حسمت أمري، انحنيت، التقطت حفنةً، رفعتها الى فمي، فإذ بي أشاهد فيها..بقايا علكة. أكتفي بالنظر اليها بحنوٍ فائق لا يخلو من سخرية، من نفسي طبعاً، ثم أرمي بها الى الارض.

لكن تلك الحركة لم تمر مرور الكرام. فقد وقف رجلان بثياب أقرب الى الرثاثة، متكئين على شاحنة "بيك أب" صغيرة، امام بوابة المقر الحدودي، يراقباني وقد ارتسمت على وجهيهما ابتسامة سخرية، لا بل انهما لم يتورعا عن التعليق بصوت عالٍ "شوف هادي كمان..شو جابك من بلادك لهون. حد بيترك ايطاليا وبيجي لهون؟" لسبب ما قرر الرجل أني إيطالية. أقترب منهما وأرمي السلام، فيبهتا على شيء من الإرتباك. أسأل عن سبب هذا الغضب وتلك المرارة؟ فيجيب أحدهما "حد بيدخل السجن برجليه؟" ثم يقول ما معناه أنهما عاطلين عن العمل، وقد حاولا الخروج الى مصر بحثا عن فرص أخرى للعمل في كهرباء السيارات، لكنهما لم ينجحا في ذلك. ثم يضيف الأكبر سنا، "في بلد بالعالم بتنقطع فيها الكهربا تمان ساعات باليوم؟". من بين كل المشاكل لم يختر الرجل الا الكهرباء.

تنطلق بنا السيارة. السائق إشترى "تلاتة كيلو بازيلا ب12 شيكل" من بائع متجول كان يقف على المعبر قال انها لسلوى الطريق مضيفاً انها رخيصة الثمن. الشيكل يذكرني بوجوده.. أسال السائق التمهل في السير. أريد أن أستوعب كل هذا. أحس بعسر هضم عقلي ووجداني. كل شيء أعرفه عن غزة كان نظرياً، وهو الآن يبحث عن عن صورته الواقعية، عن ترجمته الميدانية. لا يسّهل شعيب الأمر. ينهال عليّ بكمّ من المعلومات: هنا خان يونس، هنا دير البلح، هذا الشارع الذي نسلكه اسمه شارع صلاح الدين وهو أطول شارع في غزة. الشارع يمتد من معبر رفح الى معبر إيريتز على الحدود مع "اليهود". لا احد يقول اسرائيليين. هناك إسرائيل وهناك اليهود. هذا شارع البحر، الموازي لشارع صلاح الدين، وللبحر بالطبع. هنا كانت المستوطنات قبل التحرير وقد تحولت اليوم الى ارض زراعية للسلطة. هذه الأرض الجرداء الممتلئة بالخردة كانت كلها مشجرة، لكن اسرائيل جرفتها خلال الإحتلال..هنا كان حاجز "ابو هولي" وكل من كان يمر عليه كان يحقق معه وتؤخذ بصماته ليستطيع العبور، وقد لا يستطيع.

"يجب ان نشتري لك رقم "جوال محلي" يقول شعيب. "جوال" هو اسم شركة الخلوي هنا، ثم يشير الى تقاطع إجتزناه للتو تمركزت على جانب منه نقطة تفتيش عسكرية، يقول:" هنا كان معبر نتساريم، سمي كذلك "لأنهم" كانوا يعبرون منه الى المستوطنة التي تحمل الإسم ذاته على شط البحر. هنا كانت تحصل المواجهات خلال الإنتفاضة"، ثم يضيف ببساطة "وهناك، قبل نقطة تفتيش نتساريم بعشرين متر تقريبا استشهد محمد الدرّة في حضن أبيه". (يتبع)

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/9/2012 11:20:19 PM

سامحك الله يا ضحى، ابكيتني بعدما ظننت ان فلسطين قد استهلكت حصتها من دمعي. احلم بيوم استطيع ان اكون فيه، مثلك، ،،،،،،،،،، هناك. تقريرك عن غزة ، بيوتها وناسها، ثلجها وأمطارها، كهرباء ها وكبريائها اكثر من رائع . اما فكرتك عن السياحة المناضلة فهي فذة وتذكرني ببعض الدعوات التي سمعناها "من البعض" لزيارة القدس التي هي دعوة حق يراد بها باطلا. اما فكرتك فقد أكون اول من ينفذها . هذا اذا استطعت الحصول على إذن لزيارة مصر اولا ، فانا، نسيت ان أخبرك انني لاجئة فلسطينية. مي

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/2/2012 4:16:23 PM

اهلا وسهلا بكِ في غزة :)

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/4/2012 9:37:00 AM

متى بإمكان المعلقين كتابة اسماءهم بدلا من هوية "مجهول" التي توزعها على مواطنينا من قراء الأخبار؟ يعني صار لدينا "أمة" مجاهيل يا حلو..مودتي واشواق لكل الزملاء وخصوصي الذي يتحمل جهلي التكنولوجي..

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/2/2012 11:14:44 AM

رائعة! تحياتي!

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/2/2012 7:31:48 AM

كم "فلسطين" صارت عصيّة على المواطن العربي؟ أدعوك لزيارة بغداد يا صديقتي، لكي تشمي حفنة من ترابها بالنيابة عني.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/4/2012 9:34:21 AM

عزيزي المجهول..لم تكون بغداد عصية كفلسطين على زيارة اهلها؟ سأزور بغداد لا شك، وقد زرتها بعيد سقوطها في يد الإحتلال الأميركي بثلاثة اشهر للتحقيق في القصف على فندق فلسطين الذي كان ممتلئا بالصحافيين من قبل الاميركان. ولكن لم تكون عصيّة عليك؟ ليتك تقول لأفهم..مودتي ملاحظة: صحيح انه ليس هناك خانة للاسم على الموقع بسبب "التصليحات" ولكن يمكنك التوقيع نهاية التعليق. وايمايلي هو [email protected] ضحى شمس

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/1/2012 11:36:45 AM

ندخل معك الى هذه الأرض...... رائعة بكتابتك وشعورك بانتظار تتمة المشوار...........

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/1/2012 9:28:11 AM

يا نيّالك!!كأنّا معك... بإنتظار ما س"يتبع"

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 3/1/2012 7:27:15 AM

الله يطعمنا متل ما طعمك يا ست ضحى. نحن بانتظار البقية...

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/29/2012 11:19:35 PM

الحمد لله على سلامتك رائع يا ضحى كالعدة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/29/2012 9:04:13 PM

نشرته هيفاء ذياب يوم الأربعاء, 02/29/2012- 21:05 عندما وقع الاحتلال الثاني عام 1967 أقسم أحدهم ألّا يتعامل بالشيكل ظنّا منه أنّ الاحتلال وافد مؤقّت! بعد سبع سنوات لم يجد بُدّاً من أن ينكث بقَسَمه. سلّمي يا ضحى.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/29/2012 8:23:14 PM

ضحى، أبكيتني!

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 2/29/2012 6:20:23 PM

لا أبالغ اذا قلت انني ذهبت معك يا سيدتي الى فلسطين,جميل جدا ما تكتبين, بانتظار متابعة الرحلة معك,ألف تحيّة...

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم