"ثلج" على غزة

البحر الذي ينكشف للعين من نافذة الغرفة بالفندق الغزاوي، لا يزال هائجاً ومزمجراً منذ ليلة أمس. لم ينفك المطر الشديد عن الهطول تحمله رياح هوجاء ليرتطم بعنف بزجاج النوافذ. الشوارع خالية تقريباً من الناس ومليئة بمياه أمطار لم تعتد غزة غزارتها منذ خمسين عاماً. لكن الشمس، للمفارقة مشرقة. كأننا في كوكب لوحده. كوكب جديد بمناخ لا عهد لنا به. هذه المفارقة ليست إلا إشارة الى التناقضات الكثيرة في غزة.

المراكب المسجونة في الميناء مرتين، مرة لأنها ممنوعة من التقدم لأكثر من مسافة 3 اميال، ومرة بسبب العاصفة المجنونة، تتأرجح بعنف برغم حماية "السنسول". ومع ذلك، هناك رجل "يتمشى" حرفياً، وقد شمّر عن ساقيه على الشاطيء الرملي الجميل الذي تذرو الرياح رماله. في حين يجاهد آخر "للتقدم "، وهو يمشي الى الخلف عكس مصدر الريح ليحمي وجهه من سياطها المختلطة بالرمل. أسراب من الطيور تحلق كالحائرة دائرياً فوق الميناء في مهب العاصفة كما لو أنها أضاعت بوصلتها الخفية. تقول الأخبار أن "3 جبهات هوائية تضرب فلسطين". تتوالى أخبار تعطيل الدراسة والإدارات لسوء الأحوال الجوية. لا بل ان حالة الطواريء تعلن في نابلس. يتوالى إلغاء المواعيد من كافة الجهات. التلامذة لم يذهبوا منذ أمس الخميس الى مدارسهم التي أعلنت الإقفال. "تلج يا غزة؟ هيه حصّلت"، تكتب شيرين ابو شعبان على الفايسبوك بخفة دم. ليس ثلجاً، بل حبات برد ضخمة تساقطت فجر اليوم على دير البلح. أنا أيضاً سمعت طرقها العنيف على زجاج النافذة.
لكن هنا داخل الفندق، ابتسامات كثيرة دافئة. يطرق العمّ رسمي، نادل الفندق الوحيد. الباب. لا نساء موظفات في الخدمة ولا حتى في الإدارة. النساء غير منظورات تقريبا في غزة. وإن وجدن، تراهن قد طمرن انفسهن تحت كومة من الثياب. البرد والإيمان يساهمان في محو معالمهن. وجود البحر يعوَض المفتقد من طراوة في المشهد الذكوري الخشن لغزة.
موظف الإستقبال سعيد بوجود لبنانية، فوالده كان من سكان مخيماتنا، "عين الحلوة" تحديدا. أقول في نفسي أنه كان عليه ان "يقوم بتعذيبي" بشكل ما، إنطلاقا من مبدأ "المعاملة بالمثل" الذي يتشدق به اللبنانيون لإخفاء عنصريتهم تجاه من هو أضعف منهم، ويتناسونه امام الجنسيات الإستعمارية. شاب آخر في "المطعم" المفترض للفندق، يخبرني ببهجة، أن منتخب لبنان تأهل رغم خساراته امام فريق الإمارات الى الدور النهائي.
يكتمل الصباح، بصوت فيروز من الراديو. "أنا يا عصفورة الشجن/ مثل عينيك بلا وطن". ليس راديو غزة بل الإذاعة السورية. هنا توجد إذاعة واحدة للأغاني اسمها "غزة اف ام"، كما قيل لي، لكني لم أعثر عليها، ربما بسبب الطقس السيء استثنائياً. من هنا، من هذا المكان، أفهم غرام الفلسطينيين بمن ينادونها تودداً "أم زياد". من هنا أفهم أكثر لم يفضلون تلقيبها باسم بكرها. الكل هنا "أبو" او "أم " شيء ما. هذه طريقة لجعلها من أهل البيت. كأنها الجارة من الحي. مهما نأت بها الجغرافيا، تبقى هنا. لا يعكر المزاج الا نشرة الاخبار. تحديدا اخبار حمص ومعاركها الحامية من بيت لبيت، وعروض السعودية وقطر تسليح المعارضة المسلحة اصلاً! الناس، جمهور حماس خاصة، متوترون بدورهم لأخبار سوريا. يتابعون الاخبار على قناة الجزيرة. جماهير الأحزاب الأخرى وخاصة الجبهة الشعبية، متوترون ايضاً، تخوفاً من انهيار محتمل لسوريا وانعكاس ذلك على فلسطين خاصة. يقول لي أحدهم:"المشكلة أن الدم المراق يعمي الفلسطينيين كرأي عام عن الكارثة التي ستحصل لو تفتت سوريا. لا يمكن للقضية الفلسطينية أن تتحمل ذلك".
"أم شو حضرتك؟" يسألني السائق. لا يمكن التجول الا بالسيارة بسبب سوء الأحوال الجوية. وبرغم ذلك، إعتصام امام مقر الامم المتحدة تضامناً مع أسيرة الإعتقال الإداري هناء يحي شلبي المضربة عن الطعام. المشهد يذكرني بأهالي المخطوفين في بيروت. كل يحمل صورة اسيره. على الحائط المقابل خليط من شعارات. "لا لإعدام صدام حسين" او "أمريكا من يستحق الإعدام وليس صدام". مشكلة الأسرى ضخمة هنا. وهي من شقين كبيرين ذات مغزى: أسرى الاعتقال الاسرائيلي، الاعتقال الإداري خاصة الذي يجدد بدون مبرر الى ما لانهاية، والأسرى السياسيين، اللذين تتفاوض سلطتا رام الله وغزة على الإفراج المتبادل عنهم ، تحقيقا للمصالحة الوطنية التي تمشي ببطء سلحفاة. هناك إستياء كبير بين الناس من الطرفين. الإثنان يخسران بدون أن يكون هناك من يربح مكانهما كقوة سياسية. تحاول الجبهة الشعبية ملء الفراغ. زيارة د. ماهر الطاهر، القيادي في الجبهة الى القطاع وتنديده بالانقسام "لأسباب تتعلق بالتنازع على السلطة "في مؤتمره بمخيم البريج، ودعوته لعصيان مدني للسلطتين يصبّان هنا على الأرجح.
الى مخيم البريج الذي يبعد 8كلم عن مدينة غزة، يصطحبنا الأسير المحرر ونائب مركز حقوق الإنسان جبر وشاح. الرجل مسافر غدا (اليوم) الى الولايات المتحدة. حصل على الفيزا لزيارة ابنته التي تدرس هناك بعد انتظار اربعة اعوام. يقول انه لم يرها من وقتها. يخاف ان تأتي الى القطاع وتعلق هنا لسبب ما، فلا يعود باستطاعتها ان تكمل دراستها كطبيبة.
ما أن نصل حتى تنقطع الكهرباء. ننتظر دقيقة فيعود التيار من المولد. صالون العائلة فيه صحفي إيرلندي. يقول الشاب المرح بألفة أنه أغرم بغزة لكنه لا يستطيع ان يبقى فيها لأنه "بحاجة الى زجاجة بيرة واحدة على الاقل بعد العمل". يضحك الموجودون. لا تتأخر أم وشاح "والدة الاسرى العرب بالتبني"، عن الدخول. على الرغم من حزنها على فراق زوجها منذ حوالي الشهر، إلا أنها تجلس معنا. لا تلبس ام جبر الاسود حداداً. تلبس ثوبها الفلسطيني الذي طرزته بيدها، على رأسها طرحة بيضاء، وفي إصبعها، فوق محبسها، محبسه الذهبي. بعد جيل أو جيلين، قد يصبح المحبس الذهبي هو الآخر منسيا. محابس الجيل الجديد في غزة فضية، إسلامية. تسألنا عن "إبنها" الآخر سمير القنطار، صورة القنطار على الحائط معلّقة مع صور الاولاد الآخرين. ترينا صور إبنه "علي" بفخر وسعادة، على موبايل ابنتها شمّا. نتكلم في كل شيء، تسأل عن بلال مصطفى الدكروب، الأسير اللبناني الذي كان محكوما لسنة ونصف وجدد اعتقاله إداريا ستة أشهر تلوّ ستة أشهر حتى اعتقل 14 عاماً. كانت هي قد تبنته كما تبنت سمير في السجن لأن اهله لا يستطيعون الوصول اليه في السجون الاسرائيلية. تخبرنا كيف كانت تذهب إليه في سجن "الجلمة" الذي يبعد 3ساعات في السيارة. عمر أم جبر إثنان وثمانون عاماّ. تقول أنها تحب "النسوان القوية والشديدة". تسأل عن معارفها في بيروت التي زارتها مرتين. لا أعرف كيف أتينا على سيرة الكتابة والقراءة، وإذ بها تقول "هذي مرارتي. هذا أسفي. شغلتين كنت أحب أسوّيهم في حياتي: أقرا وأكتب. وأتعلم القيادة"، تقول الجملة الأخيرة ضاحكة، وهي تقلد حركة مقوّد السيارة الى اليمين والى اليسار، وقد برقت عيناها بمرح وشيطنة طفولية.
ولقد وصلت أخبار ثورة "الفيسبوك" الى أم جبر. تحلل الوضع العربي وتقول ان أمريكا والصهاينة "وهادي قطر مسكوا الثورات العربية"، تقول إبنتها شمّا: لما بيقولوا الربيع العربي والله بزعل. أيا ربيع؟ هادا ربيع ومصر بقالها سنة وشهرين مخضوضة؟ وسوريا؟ والمشحرة ليبيا؟ وحتى تونس..ركبوا الأخوان المسلمين لأن الاميركان اتفقوا معاهم يحافظوا على اسرائيل". تعّقب أم جبر ضاحكة "بدنا هادا الفيسبوك يجي في اسرائيل"، تقولها كما يقال نريد لهذا الصاروخ أن يصيبها.
فجأة تنقطع الكهرباء. فيقول أحدهم في العتمة "إجت الكهربا". أفهم عليه فورا "بلغة الكهربا". هو يقصد "كهرباء السلطة" على غرار "كهرباء الدولة" ثم يسأل "وللا هيدا الموتور؟"ثم فجأة يعود التيار. فيقول "هلق إنقطع الموتور ولا الكهربا؟" ثم ينقطع النور مرة أخرى، ليعاود بعد لحظات. بعد نصف ساعة تنقطع الكهربا، ثم تضاء. لم اعد أفهم شيئا. ولا أهل البيت.
يتحدثون في الصالون عن زيارة د.ماهر الطاهر الى هنا. هي زيارته الاولى. يبدو أننا دخلنا سوية من المعبر. أتذكر أن احد أصدقائه أخبرني بذلك قائلا: "سألته عن شعوره أول دخوله فقال أنه لا زال غير مصدق وأنه يحس بالضياع".
العاصفة تشتدّ في الخارج. أزمة الكهرباء أيضا تشتدّ على وقعها. فالإستهلاك يزداد في البرد. والمصريون أحبطوا، حسب وكالة "معاً" الإخبارية، محاولة لتهريب "السولار" أي الفيول الى القطاع عبر الأنفاق، وهو وقود محطة غزة الوحيدة لتوليد الكهرباء، فأطفأت سلطة الطاقة المحطة. ذلك أن تشغيلها، كما صرح مصدر تقني فيها، لم يعد ممكنا من دون تأمين استمرارية التموين بالفيول لأن الماكينات سوف تتعطل. اسماعيل هنية، رئيس الحكومة المقالة، يعطي توجيهاته بعدم فصل التيار عن البيوت التي لم تدفع فواتير الكهرباء وذلك مؤقتا. لاحقاً يلقي خطبة يوم جمعة "كهربائية" تقريبا. يحكي عن الجهود الضخمة غير المنظورة التي تُبذَل لحل هذه المشكلة العويصة.
إنذار آخر يأتي من المستشفيات وغرف عنايتها الفائقة وحضانات الأطفال الخدّج، اي المولودين قبل الأوان. حياة هؤلاء معلقة بخيط كهرباء ضعيف لا ينفك يتأتيء. يدبّ د. حسن خلف، وكيل وزارة الصحة المقالة، الصوت. يقول أن هذا الأمر يشكل خطورة حقيقية على الوضع الصحي. مؤكدا أن توقف أجهزة التنفس الصناعي يعرض حياة المرضى لخطر الموت في أي لحظة. ويناشد المسؤول اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية والمراكز الحقوقية والإنسانية و"كافة الجهات الحقوقية والإنسانية وكل الأحرار والشرفاء في العالم" لضرورة التدخل الفوري والعاجل من أجل إدخال لوقود اللازم لتشغيل المولدات اللازمة لمستشفيات قطاع غزة". ولكن. ما قصة الكهرباء في غزة؟ (يتبع)

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم