الإحتلال بالشيكل

البقشيش عيب هنا، بعكس مصر. حتى الأولاد الفقراء في مخيم الشاطيء، أولئك المنهكين من الفقر والبرد والبطالة، يُفاجأون لو مددت يدك ببعض النقود اليهم، يتراجعون برأسهم الى الخلف، كما لتفادي صفعة. أو كما لو أنك أسأت تفسير تقرّبهم منك. بالطبع هناك من يمدون أياديهم في المدينة، لا بل انهم كما ما قيل لنا، يتكاثرون. ولكن ربما كانت المعلومة الاولى، تدلنا على مدى فداحة الأخيرة.

في المطعم الذي يقدم أطباقا غزاوية شهية تنافس المائدة اللبنانية، ينبهني دليلي، حين أسأله كم عليّ ان أترك يقشيشاً: "إياكي، عيب كتير هنا. بيزعلوا". أدهشتني المعلومة بقدر ما ادهش الناس سؤالي عن كيف يتعاملون بعملة العدو، الشيكل. بالنسبة اليهم الأمر "طبيعي". الإحتلال ليس وجود جنود الإحتلال فقط على أرض غزة. هو ذاك الإرتباط بإقتصاد العدو. إرتباط المضطر، صحيح، ولكن..الذي أصبح عادياً. في حي الرمال، شارع خالد ابن الوليد، المحلات كثيرة. ندخل محلا لبيع الأحذية الشعبية. أو على الأقل هكذا ظننا. فتاة، محجبة بالطبع، تحاول مساومة البائع على السعر ولكن بخفر شديد."بيصرش بأربعين شيكل؟" تسأله. الدولار يساوي 3 شيكل و70 أغورا. الأغورا هي بمثابة القروش. بعد خروجها يقول محمد بكرون، مدير المحل والبائع فيه، أن "البيع نازل كتير. أكتر من 50% بسبب الوضع الإقتصادي للناس". مصدر مصنوعاته "الصين بشكل كبير. اما الأسعار فتترواح بين "40 شيكل و150 شيكل". ويضيف "في محلات أرخص هي المحلات الشعبية زي( أحياء) الشجاعية وجباليا". أهه. يتبين اننا في المنطقة الراقية. المحل يعتبر هنا راقيا تماما كما الحي. ولكن اليس هناك من صناعة غزاوية للأحذية؟ سمعت كثيرا بموضوع سياسة "الإكتفاء الذاتي " لحماس. يقول:" صناعة محلية مفيش هنا في غزة، بس بالضفه في، بالخليل تحديدا. إحنا منستورد البضايع عن طريق معبر "كارني" او (معبر) كرم أبو سالم". والى اي مبلغ يحتاج الإنسان هنا للعيش المقبول شهريا؟ يقول "إذا براسو، اي لوحده، حوالي الف شيكل". ليس هناك حد أدنى للأحور هنا. ويضيف" متوسط العائلة 5 أطفال إضافة الى الوالدين اي سبعة. نعم هناك مدارس حكومية لكن التعليم فيها غير جيد. وفي مدارس خاصة. ولكن إن ارسلت اولادك الى الخاص، طارت الميزانية. رسوم المدرسة الحكومية حوالي 60 شيكل بالسنة، بس مصروف المدرسة الخاصة؟ اكتر من خمسة آلاف شيكل بالسنة". في محل غير بعيد عنه، يقول عبد الوهاب عزّت، صاحب محل للألبسة الرجالية أن "البطالة في غزة تؤثر علينا كثيرا. يعني البيع نازل يمكن 70% عما كان الوضع عليه العام 1997الى العام 2000". ويضيف "يا دوب بسلّك حالي، لولا ان المحل ملك- الملك لله- كان علي ان ادفع بين اربعين وخمسين الف دولار إيجار هذا المكان الواسع. يعني كنت بسكّر". أتذكر ما قيل لي عن جنون أسعار العقارات هنا. كيف يمكن لقطاع محاصر ويخلو من اي عامل جذب للاستثمار ان تكون فيه اسعار العقارات والأراضي مرتفعة الى هذا الحد؟ لم أفهم. أسأل سامر، إبنه الذي يساعده في المحل، عن مستوى التعليم كونه لا يزال طالبا ثانوياً، فيعارض كلام والده" مش مزبوط ان التعليم ضعيف. هون أقوى من برة". برة؟ ماذا يقصد بذلك؟ يقول "على هوا ما بشوف اولاد عمي في السعودية، عنا المنهاج الفلسطيني أقوى من المنهاج المصري". الهموم المعيشية للحي الراقي، "راقية" بدورها. "أسعار الذهب نار" تقول ولاء دغمس (30 عاما) والتي كانت تصطحب فتاة صغيرة، في تفتيشها عن شيء ما متنقلة من محل الى آخر، حين سألناها عن غلاء المعيشة ! وتضيف: "أنا محاسبة وبحسبها صح. يعني أختي عروس، قطعة بسيطة جداً..ولا اشي . إسواره يعني. أقصد شبكة عروس، أخذوا منها الفي دينار أردني". لحظة، لقد ضعت. الفا دينار أردني؟ وهل يتعاملون هنا بالدينار الأردني؟ تجيب "بس بالذهب والدراسة"! ولماذا؟ تهز بكتفيها:" والله ما بعرف. يمكن لأنو بيشتروا الذهب من الأردن". والدراسة؟ تقول :"بقصد الجامعة الإسلامية بغزة". ومن الرمال الى احد افقر الأماكن في غزة: مخيم الشاطيء. ولكن، لم هناك مخيمات على ارض فلسطين؟ اليست المخيمات فقط للاجئين؟ هناك عدة مخيمات هنا. كأن فلسطين اصبحت أرخبيلا من المخيمات المتناثرة في العالم، بما فيها ارضها؟ كيف يكون ذلك؟ يشرح الدليل ان هذه المخيمات هي في الأصل مخيمات "مهجرين نقول لها. لأنهم هجّروا من اراضي 1948. ولدى وصولهم نصبت لهم الأنروا (ما غيرها) خيما. فتجمع أهل كل قرية مع بعض، يعني هنا كان أقرب مكان اليهم جغرافيا، بعد نزوحهم من قراهم. واستمر المؤقت كالعادة. فأصبحت احياء ومدن ولكن بقي الاسم". ثم يضيف "يعني في ناس بعيدين نص ساعة عن قراهم الأصلية، بس طيعا بيقدروش يروحوا". يقطن رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية في المخيم. بيته هنا. والمسجد الذي يخطب فيه، الأبيض، ملاصق تقريبا لبيته. نمر من امام الباب حيث ينتشر عناصر الأمن خلف حاجز متحرك. المنزل تماما على الشاطيء. اليس هذا خطر امنياً؟ يجيب السائق "ما تخافيش عندهم كلهم انفاق". يقصد للخروج متسترين عند الحاجة. هنا البطالة والفقر والإكتظاظ السكاني على أشده. نقصد الوصول ساعة نهاية السوق، بعد صلاة الظهر. فالأفقر يقصدونه في هذا التوقيت للإستفادة من نزول الأسعار لرغبة الباعة بالتخلص مما تبقى من بضاعتهم. كانت العاصفة لا تزال مسيطرة. والبرد على اشدّه. وبرغم ذلك، كنت ترى الأقدام الرجالية لا تنتعل إلا شحاطات بلاستيكية مفتوحة، في حين أزرقت الأصابع من البلل بمياه الأمطار المثلجة التي كانت لا تزال تتساقط. مراهقو السوق من الباعة والأولاد الصغار، لبسوا بأقدامهم أكياسا من النايلون الأسود. لا أحذية مقفلة. تخفف أكياس النايلون على الأقل من البلل وبالتالي من البرد. يتجمعون كما يفعلون دائماً ، حول اي غريب. فكيف أن كان من يرافقه يحمل كاميرا فيديو؟ مجرد هذا التغيير في يومياتهم يشعرهم بالبهجة. "يس اي سبيك عربي"، يقول أحدهم ، فيضحك رفاقه. يقفون خلف كتفي تقريبا وأنا اكتب ما يقوله لي الناس. السيدات إنطلقن بالشكوى: "كل أشي غالي ..هياني اشتريت بس بردقان (برتقال) أرخص حاجة ". ماذا عن اللحمة؟ تقول" كلو نار ..الطازه مش متل المتلج. اللحمة غالية والله ما بعرف قديش صارت لأني بشتري متلّج..حتى السمك متلّج. البحر ممنوع". يتطوّع أحدهم لتنويري" العجل ب40 شيكل والخرفان بخمسين". نسأل السيدة من اي بلد في اراضي 48 هي؟ فتجيب" من قرية حمامة. بس انا مولودة هنا بالشاطيء. ما بعرفش حمامة..لأنها اليوم بإسرائيل". اما ناديا، فتقول انها حتى اليوم، لم تستطع ان تشتري البازيلاء الطازجة مع انها من زراعة غزة "مناكلها مثلجة. الدخل خفيف. أخوي قاعد ما بيشتغلش من زمن طويل. من يوم ما سكرت
إسرائيل. كان يشتغل هناك. عنده 8 انفار وأنا التاسعة. كان يعمل خياطا في مصنع البوليغات (للنسيج)". ولم لا يعمل هنا؟ تقول"مالوش شغل هان". وسط مياة الأمطار المختلطة بنفايات السوق وبقايا السمك، يقف بائع صياد سمك بشحاطته امام اربعة صناديق بلاستيكية فيها انواع متفرقة. نسأله عن مصدرها فيقول ضاحكا"بحر قزوين". نحن امام بائع "كلمنجي" إذا. يضيف ضاحكا:" بمزح، من مصر، عشان عنا المياه الأقليمية محتلتها اسرائيل. وعشان كده الصيادين صاروا اموات وهم احياء". وبكم ييبع؟ يقول "كيلو المليفة ب15 شيكل.." يقاطعه زبون فينصرف وهو يكوّر كفه طالبا ان ننتظر، فقد جاءت الرزقة. بلحظات باع تقريبا كل محصوله. "وجهك حلو علي..إسألي إسألي قبل ما أروح. بقدرش أبقى لأني لازم أروّح السقاطة". ماذا يعني بالسقاطة؟ تهتف جوقة الأولاد حولي:" السجن". نعم؟ يشرح الرجل انه مسجون لكنهم "بيتركوني أطلع يوم في الاسبوع لطلًع رزق ولادي وبعاود اليوم (الجمعة) بالليل للسجن". وهل هذا قانون؟ شيء ممتاز. فكرة. أضمر السؤال للداخلية. وبأي سجن هو؟ " كنت بانصار بعدين أصداء. بقالي 39 شهر بالسقاطة". وما ذنبه؟ يغمغم. هناك من يقول حولنا انه "فتحاوي". أقول له:" لكن هناك مصالحة". يهتف احد الواقفين وكأننا في ندوة "على الورق". يقول الصياد الذي ذكر اسمه ثم تراجع حين نسأله عن الأحوال"ما دام في ساعة كهربا بالنهار ماشي. يعني الناس اللي عند آية الله باتنجاني وكوسياتي وجزراتي؟ كلهم احسن منّا. الصومال أحسن منا. هيانا كلنا في سجن. وين العرب؟ مدراء شركات إسرائيلية.. تفووو". أما هيثم احمد، الذي كان يتأبط ذراع زوجته المصرية، فيردّ حين أسأله عن المعيشة "الفقير اللي بياخذ آخر النهار 20 شيكل باليوم كيف بيعيش؟ انا خياط بالأصل بس الوقيت سائق صهريج لتوزيع مياه الشرب من محطات التحلية. مفيش شغل. شوفي الاسعار:القرع ب10 شيكل، الكوسا والخيار الاربعة كيلو بعشرة شيكل البندورة 3 كيلو كمان بعشرة شيكل. أنسي اللحمة". بالقرب من اللحام، على مبعدة، زبائن تحلقوا حول ما تبقى من ذبائح. حمار يجر عربة، والعمال يشطفون امام محلاتهم، في حين تحلق أولاد حول نار اشعلوها ببقايا السوق اليابسة ووقفوا يستدفئون. الكل ينظر الينا حتى ولو لم يكن ينظر مباشرة. ولد يمسك ببرتقالات يرميها في الهواء كما البهلوان في السيرك. يفعل ذلك امام كاميرا زميلي. رجل عجوز يحدق بنا ونحن نسأل اللحام عن البيع. أمشي بإتجاهه وأتحرش سائلة. يقول" شو بشتغل؟ قاعد. بقيت بجيش التحرير الفلسطيني. كنت عندكم في (مخيم)عين الحلوة. بعدين رحت لتونس، ورجعت لهون. مفيش شغل . بطالة وبس". ثم يردف:" والله العظيم مش عايشين بالمرة". لا يريد ان يقول اسمه. احد الأولاد الملتصقين بنا تقريبا منذ دخول السوق، يضيف " حياة قرف ..بس أدعولنا نموت". كمن تلقى لكمة في قلبه، التفت للفتى متفاجئة. "ليش عم تقول هيك يا إبني؟" أسأله. يجيب يعبد الرحمن أبو خضير (12 عاما) بجدية تقارب حزنا ليس من عمره : "حياة قرف". وهل يذهب الى المدرسة؟ يعود الى المزاح وهو يحرك بقدمية العاريتين بقايا النفايات على الارض قائلاً "يس". يضحك الفتية حولنا. ثم يقول "نحنا كتار بالبيت. 15 نفر. وماتت بنت كمان. كانت زغيرة بس. شي يومين. أبوي بيشتغل بالسوق، بس من قلة الشغل بينزلنا ع البسطة. حتى مش راضيين يخلونا نبسّط. بيضربونا مخالفة 100 شيكل". من؟ يجيب "التنفيذية". اسم الشرطة البلدية على ما أظن. يتضخم التجمع حولنا. نتحرك الآن كمسيرة صغيرة. يقول اللحام انه لا يبيع لحم الخرفان لأن "ما حدش بيرغبوا". يقصد ماديا لأنه غالي الثمن. عجوز على بسطة يخاطبني بلغة لا افهمها. يضحك الدليل ويقول لي: "إنه يتحدث اليك بالعبرية!" وماذا يقول؟ يجيب "شوية شوية". ولم يتحدث اليّ بالعبرية. اسأل العجوز بالعربية، فيقول "كلو من العرب. لولا ما هشلوا اليهود كانوا بقيوا ببلادن وما أجوش أخذوا بلادنا". اقول له ان الذنب ذنب الاوروبيين الذي أضطهدوا مواطنيهم اليهود في بلادهم وليس العرب الذين عاشوا مع يهودهم بإلفة حتى وصول إسرائيل. فيعلق رجل واقف :"هادا أهبل ما ترديش عليه". اسأل عن بذار عشبة الجرادة الغزاوية. فيتطوّع أحد الفتيان الأشقياء حولي، لأخذي الى "مطحنة بخيت". عندما نصل أمدّ يدي إليه بقطع معدنية من النقود، فيقفز تقريبا الى الخلف قائلا: "لأ..مش عشان هيك". أفاجأ بدوري، لكني أشدد عليه لتناولها قائلة ان هذا أجرته لأنه تكبد عناء مرافقتي الى هنا. ينظر لحظة كمن يفكر، ثم يمدّ يده ويتناولها باسماً. "اللي بيمدّ إيدو (للتسول) أكثر من اللي بيمدّوها ليدفعوا". هكذا يلخص صاحب مطحنة الحبوب الوضع الإقتصادي هنا. مردفا "وضع الناس أسوأ من السيء". لكن فوزي بخيت يطلعنا على معلومة مفيدة تتعلق بالأنفاق. يقول" المشاكل التجارية كثيرة بسببها. يعني اولا أغلب السلع بتجي مضروبة. والأسعار متذبذبة. وأغلب الأوقات مننضرب بالنوعية وبالأسعار. ثم تأتي قضية الكهرباء لتزيد التوالف. منحاول نشغل مولدات بس مفيش بترول. وبعدين؟ ح نسكّر. الأجهزة خربت من ضعف الكهرباء. كله ع البركة. اليوم هنا كيس الزهورات(250 غرام) بسعر 20 شيكل، ممكن تاني يوم تتغرق الأسواق بالزهورات (لتدفق التهريب) فتصبح بشيكل واحد. إيش أقلك؟ خسارة بخسارة". يقول عبارته الأخيرة بمرارة وابتسامة، كما يفعل الجميع هنا. ثم يهتف بالأولاد الأشقياء الذين لحقوا بنا. "شو بتعمل يا ولد؟ إطلع لبرة". للأنفاق إذا، برغم مساهمتها برخص السلع، تأثيراتها الجانبية. يمشي عبد الرحمن، الفتى الذي طلب منذ هنيهة ان ندعو له ان يموت، بجانبنا. يسألنا عن عملنا ثم يأخذه مرح عمره وشقاوته، فيأخذ بالقفز يمنة ويسرة كما يفعل الملاكمون. ثم يسألني خالطا الجد بالمزاح" هلق كيف الواحد بيطلع لاعب كرة قدم؟ ما بيخلو يطلع إلا لعيبة كرة القدم..بدي أطلع من هون". هل من المهم بعد ان أسأل عن كيف يتعاملون بالشيكل، عملة العدو؟.

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم