أهلي هناك

هي ساعات فقط، فصلت بين عبوري رفح باتجاه الأراضي المصرية وبين بدء العدوان على قطاع غزة الذي يقال اليوم إن تهدئة حصلت على خطه عند الفجر. رسالة "نصيّة" وصلتني من المدينة المنكوبة، والمتحوّلة إلى نوع من حقل صيد «تتمرجل» إسرائيل فيه على سكانه المعتقلين بحصارها، فتصطادهم الواحد تلو الآخر. رحلات لصيد البشر. «سافاري» اسرائيلي.

أين سيفرّون منها؟ الرسالة وصلتني متأخرة. ضنّ الصديق بتبديد سعادتي بالزيارة فلم أعرف إلا بعد وصولي إلى الفندق المصري بساعات. تحديدا كنت في طريقي الى المطار. ماذا سأفعل؟ هل أعود؟ أقرأ الأخبار فأجد أن المعبر أقفل. طبعاً، أقول لنفسي. وهل هي حدود طبيعية؟ أصلاً قُصف مركز شرطة رفح الفلسطيني في اليوم الأول للتصعيد. أفكر في الناس الذين التقيتهم هناك، فيصبح لغضبي طعم الخوف على أشخاص تعرّفت إليهم. لم تعد غزة "كتلة" من الصور الإخبارية. أصبحت وجوه الأصدقاء الذين تعرفت إليهم، وملامحهم التي انطبعت في ذاكرتي، وضحكات تشاركتها وإيّاهم خلال إقامتي القصيرة: أصبحت لغزّة مرادفات في البال: "مقوّم أسنان" ريهام الجميلة التي تريد أن تكون مصوّرة بكل جوارحها، تفاني شعيب وتوتره لإنجاز الشغل على الوقت، ابتسامة عم إدريس في الفندق، قبلات أم إبراهيم بارود من مخيم جباليا على خدي لأني "من ريحة ابني التاني محمد" تقصد بدير، زميلنا والأسير السابق في سجون الأحتلال، ابن تبنّته تماماً كما فعلت أم جبر وشاح "والدة" سمير القنطار.
يا الله! غطّيت حياة غزة دون آلامها.
تتوالى الأخبار السيئة على الأنترنت. العنوان الأفضل لأخبار غزة هو وكالة "معاً". يكتب أحد محرريها أمس واصفاً ليل الغزاويين: "ليلاً، والناس نيام، يبدأ الاحتلال فيلم الآكشن المسائي. تحليق مروحي مكثّف، تتداخل فيه طائرات الأباتشي مع إف 16 والهليكوبتر، تتلاحق دقات قلب الغزاويين الذين تحلّق هذه الطائرات فوق منازلهم، فلا أحد يعلم أين ستكون الضربة. دقائق. صوت صاروخ إسرائيلي ينبعث من إحدى الطائرات. ثم صوت انفجار قوي يعقبه زلزال يهزّ كل المناطق القريبة من المكان المستهدف، ثم انفجار ثان وثالث ورابع... الجميع يهرع لوسائل الإعلام ليعلم مَن الضحية هذه المرة». أشعر بأن صورة غزة الإخبارية سوف تعود لتمحو من ذاكرتي الطرية صورتها "السلمية".
التصعيد الإسرائيلي الآن غير مفهوم. من الواضح أن حماس تريد التهدئة. لماذا الآن؟ لماذا وكل فصائل القطاع ملتزمة التهدئة؟ تحليل صحفي: إسرائيل تريد تغيير قواعد الاشتباك مع غزة. تحليل آخر: إسرائيل تريد إختبار القوة الصاروخية للمقاومة هنا، وفاعلية قبتها الحديدية! تحليل فلسطيني من داخل غزة: الشهيد كان ناشطا بموضوع المصالحة الفلسطينية ولا زال الحدث مفتوحاً.

الآكشن كان ينتظرني هنا أيضاً، في القاهرة التي قصدتها لأستقلّ الطائرة عائدة الى بيروت. يوم الجمعة ذاته، (9 مارس ـ آذار). أرادها بعض المصريين غير الراضين على مآل الثورة، جمعة ل "فرض الإرادة السلمية". لكن يبدو أنه هنا أيضاً،بين المتظاهرين، هناك ذهنية "فصائل".
كنتُ قد قمتُ بجولة للتوّ لأتفقّد مستجدّات الميدان المتحوّل إلى نوع من "هايد بارك". أمام مقر وزارة الداخلية، تجمع لعشرات المواطنين الذين كانوا يهتفون بطرد السفير الأميركي. على مبعدة، في الميدان أيضاً، منصّة لمجموعات أخرى ترفع شعار تجديد الثورة سلمياً. كان وقت التاكسي إلى المطار قد حان. لكن، ما هي إلا لحظات، بين وصولي باب الفندق، بالقرب من مسجد عمر مكرم، المتفرع بدوره من ميدان التحرير، وبين دخولي، حتى طار أول حجر فوق رؤوس المتظاهرين. حجر أول ثم ثان ثم «أمطرت طوباً»، دقائق وتنتقل «الهيصة والزمبليطة" الى شارعنا. أبدو لنفسي كذلك الطفل بفيلم الكرتون: يخرج بغفلة من الكبار إلى الشارع، ما إنْ يغادر مكانه حتى تقع كارثة في المكان الذي غادره للتوّ، كانت لتقتله لو تأخر في الانصراف منه. أقف في المدخل مع الموظفين وبعض الزبائن نراقب ما يجري: عشرات المتظاهرين يشتبكون بالأيدي والعصي، ثم يتباعد الطرفان تاركين فسحة كافية للتراشق بالحجارة. ما الذي يجري؟ يبدو أن الاشتباك الحالي هو استئناف لاشتباك صباحي وقع في المكان نفسه، كما قيل لي، بين المطالبين بطرد السفير الأميركي على خلفية التمويل الأجنبي، (تردد أنهم من جماعة مرشح لم يوفق إلى مجلس الشعب،يمتلك قناة "الفراعين" الفضائية)، وبين مَن دعوا إلى النزول لجمعة جديدة في الميدان من بقية الثوار. الثوار الذين كانوا في الميدان صباحاً، فسّروا على ما يبدو الدعوة الأولى بالتوقيت ذاته على أنها للتشويش عليهم. قبل ساعة تقريباً،كانت التحضيرات جارية في الميدان لعرض لفرقة مسرح الشارع بعنوان "والنبي مهما تعملوا". الشباب جاؤوا من طنطا. قبلهم، كانت هناك فرقة رقص شعبي من السويس. الناس الآن يركضون في الشارع أمام باب الفندق، نقف خلف حائط مع بعض الموظفين وفضوليين. وسط الشارع تماماً وقفت فتاتان صحافيتان محجبتان، إحداهما كانت تصوّر ما يجري بالفيديو. طارت حجارة وكادت تلامس رأسها، وانقسم الشارع: إلى يميني من جهة «الداخلية»، مجموعة ترشق المجموعة إلى يساري من جهة النيل، بالطوب. سُباب وشتائم وتهديدات وردح من بعيد لبعيد. أجذب الفتاتين من ثيابهما لتحتميا. نقف خلف الحائط. فجأة يمسك بتلابيبي رجل كهل أمام الفندق يقول لي بالإنكليزية بقلق: "مدام دونت غو ذير" مشيراً الى جهة الاشتباكات. أرد عليه بالعربية "في إيه هناك؟" فيغضب ويقول لي: "مش شايفة؟". أجيبه اني لا افهم لماذا الاشتباك؟ "هوّا أنا عارف؟" يقول بغضب ثم يضيف "أصل أنا الكوافير في الأوتيل". تتقدم "المعارك"، شاب سال الدم من رأسه يركض باتجاه النيل وقد ضغط بمنديل أبيض على جرحه النازف. خلص، أقول لنفسي، «دبكت». فلأدخل الفندق. أستدير لأدخل.. وإذ بي أُصدم بمنظر جرّار حديدي مقفل تماماً. أين الأبواب الزجاجية العالية للمدخل الفخم؟ اختفت. أقفل الفندق، تماماً كأي دكان، جرّاره الحديدي. يبدو أنهم أنزلوه تخوّفاً من "الطوب". "كيف سندخل؟" أسال "الكوافير"، فيقول لي: «من الباب الخلفي»، وهو يركب سيارته ويخرج بسرعة من جهة النيل حيث كان السير مزدحما بأرتال سيارات الخائفة. ولكن أي باب خلفي؟ المعارك تقترب. والجهتان تقتربان من الاشتباك بالأيدي أمام باب الفندق، حيث نقف الفتاتان وأنا خلف نبتة عملاقة. وقد لا يسلم الأمر من إطلاق رصاص من جهة الداخلية إلى يميني. نقرّر الجري مع الفتيات باتجاه النيل، أسأل جار الفندق، موظف أمن في دائرة حكومية ما هناك، عن باب الفندق الخلفي، فيهتف متعجلاً: "يمين في يمين" ويركض بدوره. لكن الشارع يمين في يمين لم يكن آمناً تماماً. هنا أيضاً يبدو أن المناوشات بدأت، نساء ورجال يفرون منه وهم يتلفتون الى الخلف. أفتش بسرعة عن ما قد يكون الباب الخلفي، ذلك أن موعد الطائرة قد حان. ألمح رجل أمن بثيابه الكحلية وقد شقّ باباً صغيراً يتلصّص بحذر منه على الخارج. أجري صوبه "هنا الباب الخلفي للفندق"؟ أسأله، فيصيح بي وقد همّ بإغلاق الباب الحديدي الأزرق في وجهي: "انتي مين؟" أقول له أنني نزيلة هنا. فيطلب مني رقم... الغرفةّ!
نحن في غرفة الموتورات. الباب الحديدي الذي أقفله الموظف خلفنا والأشبه بباب كاراج ضخم هو الآخر، يقرقع تحت وطأة ما يصطدم به من حجارة. يتضخم صوت الارتطام لعلوّ السقف. يهرول موظف الأمن، أو المسؤول، ليطمئنني، فيراني أضحك. فيبتسم متنهّداً بأسف. أسأله كيف سنخرج والتاكسي قد ركن سيارته بعيداً خوفاً على زجاجها؟ فيتصل. وإذ بأحد الموظفين يأتي من درج داخلي وهو يجر حقيبتي خلفه. يفهمني أننا الآن سنحاول اجتياز الشارع بسرعة إلى شارع خلفي صغير سينتظرنا السائق على أطرافه ليقلّني إلى المطار. يفتح الموظف الباب بهدوء، ثم يعود فيقفله بسرعة. لا يتأخر صوت ارتطام "الطوب" عن إنذارنا بأن المعركة لم تنته. نتلصّص من شقوق في الباب فنرى مصابين آخرين يركضون وهم يصيحون، وقد وضعوا مناديل ورقية على جروحهم وأغلبها في الرأس. ننتظر ربع ساعة إضافية. الكل هنا بملابسهم الرسمية الأمنية يتحدثون عبر "التوكي ووكي". ثم يأتي العم مجدي، الموظف العتيق ببذته الرسمية. يسألني بابتسامة تريد أن تكون مطمئنة "نتكل على الله؟". يفتح الباب.. الهدوء نسبي. ثم يهتف كمَن يطلق رصاصة السباق: "يللا بينا". أهرول خلفه وهو يجر حقيبتي التي كانت دواليبها تقرقع على الطريق المفروش بالحصى، مصدرةً صوتاً أشبه بإطلاق النار من سلاح أوتوماتيكي ما. أرجو أن لا يفترض أحد المتعاركين أنه كذلك فيرد على مصدر "النيران". شاب في آخر الشارع يشير بكلتا يديه وهو يضحك، هو السائق لا شك.
لا أعلم لماذا كنت أضحك انا ايضاً خلال الاشتباك المصري بالطوب. أشاع هذا «الآكشن» بهجةً ما في داخلي، تشبه بهجتي بالتظاهرات في بيروت. يؤكد السائق الذي أقلّني بعد تهريبي، الرواية التي كنت قد سمعتها عن سبب الاشتباك "النهاردة الصبح، أنا كنت هناك. جماعة الميدان إدّوهُم لبتوع المظاهرة ضد الأميركان علقة، فروَّحوا وجمّعوا بعض ورجعوا تاني وهجموا على بتوع الميدان".
بهجة الأكشن المصري يبدده اتصال الزميل من غزة: «الحمد لله ع السلامة، إسرائيل قصفت بعد ما مشيتي» يقصد القصف الصاروخي الأول الذي اغتالت فيه إسرائيل قائد لجان المقاومة الشعبية زهير القيسي، وهو التنظيم الذي يقال إنه اختطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ثم يقول حين سألته أين كان القصف "وين وقّفنا نشتري بازيلا في تل الهوا؟ الدكان نفسه اللي اشترينا منه؟ فاكراه؟ تماماً هناك».

يوتيوب فيديو
الأخبار في غزة
التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم