مصطفى بسيوني
منزله في القاهرة يجمع بين البساطة والأناقة. تحت صورة لكارل ماركس، جلس فوزي حبشي إلى جوار زوجته ثريا التي جمعته بها قصّة حب امتدت أكثر من ستين عاماً. لكن الناظر إليهما، يخال أنّ علاقتهما بدأت للتو. سنوات عمره السبع والثمانون ارتسمت بخطوط عميقة على وجه لتشبه عمق تجربته. تجربة انطلقت باكراً عام 1935 حين شارك تلميذ الصف الأول الثانوي في تظاهرة ضد الاستعمار البريطاني. يتذكر «يومها، شتمنا مدرس اللغة الإنكليزية البريطاني واتهمنا بأنّنا قطيع، فرفضنا حضور حصّته حتى أجبره ناظر المدرسة على الاعتذار لنا». كانت تلك المرة الأولى التي يشارك فيها في تظاهرة، وذلك قبل عشر سنوات من مشاركته في تظاهرة كوبري عباس الشهيرة عام 1946. لكن وعيه كان آخذاً في التكوّن قبل ذلك بكثير.
ولد فوزي حبشي في المنيا (صعيد مصر) وكانت عائلته من شارونة، إحدى أفقر قرى مصر. لكن والده استطاع استكمال تعليمه، وأصبح محامياً في وقت كان فيه المحامون من وجهاء المجتمع وأثريائه. لكنّ الوالد لم يتجه ليكون واحداً من هؤلاء، بل صبّ كل جهده للدفاع عن أبناء قريته الفقراء، حتى فقد بصره. في تلك الفترة، كان انحياز الابن إلى الفقراء والكادحين ووعيه بقضاياهم يتكون تدريجاً... ذلك الانحياز الذي سيدفع ثمنه على مدار العقود الخمسة التالية. فكم من مناضل يساري كان له نصيب من السجن، لكن سجن حبشي كان مميزاً. إذ يكاد يكون المناضل الشيوعي الوحيد الذي سجن في كل العهود من عهد الملك فاروق حتى عهد مبارك، مروراً بعبد الناصر والسادات. بدايته مع السجن كانت عام 1947 بسبب نشاطه في الحركة الشيوعية. يتحدث بمشاعر خاصة عن ذلك الحدث «كنت وثريا ما زلنا مخطوبين حينها، وجاءت لزيارتي في قسم شرطة شبرا وكان حدثاً جللاً. إذ إنّ زيارة شابة صغيرة وجميلة لمحبوس، كانت أمراً غير معتاد». الزيارة التالية ستكون أقل لفتاً للانتباه، فقد كانا متزوجين منذ شهور حين قُبض عليه عام 1948 على خلفية حرب فلسطين. وسيعود للمرة الأخيرة في عهد الملك فاروق إلى السجن عام 1950. لكن نهاية عهد فاروق لن تنهي زيارات السجن. فقد سُجن حبشي في عهد عبد الناصر عام 1954 ثم في 1959 ضمن ملاحقة نظام عبد الناصر للشيوعيين ثم في عهد السادات عام 1975 فعام 1980... ولن ينساه نظام مبارك، إذ سيعود حبشي إلى السجن عام 1987.
كثيرة هي الأعمال التي يطلق عليها صفة «أدب السجون»، سواء كانت أعمالاً إبداعية، أو سيراً ذاتية يغلب عليها دوماً الطابع المأساوي. لكن السيرة الذاتية التي كتبها حبشي بعنوان «معتقل كل العصور» كانت مختلفة. ما قدّمه هنا هو حالة مقاومة ممتدة وبسيطة. إذ كتب كيف تتحول أبسط الأشياء إلى قيمة ودعم غير محدود، وكيف يمكن إضفاء لمسة حياة داخل السجن لكسر قتامته. لأنه مهندس، استخدم مهاراته في بناء مسرح للمساجين. يتحدث عنه باعتزاز «بحثت عن شيء يوحِّد السجناء السياسيين الذين لم يكفّوا عن المشاحنة في ما بينهم في السجن. حتى إنّ محمود أمين العالم هرّب لنا مرة رسالة بعثها الأمين العام للحزب الشيوعي الإنكليزي بالم دايت جاء فيها: «أنتم تحاربون بعضكم أكثر من محاربة الديكتاتورية. اتحدوا». هكذا، اشترك السجناء في تمثيل مسرحية «عيلة الدوغري» لنعمان عاشور وكان حدثاً هاماً في السجن».
حتى لحظات التعذيب القاسية، يعرضها فوزي حبشي بطريقة إنسانية خاصة، ويحكي في أحدها كيف عذبه حرّاس السجن وجلدوه على كل جسده ثم صبوا عليه ماء مملحاً حتى أشرف على الموت. عندها، توسم حبشي في أحد الحرّاس الطيبين، فخلع خاتم زواجه وطلب منه أن يوصله إلى زوجته. ويتحدث بافتخار عن مجلة «الشرارة» التي كانوا يصدرونها خلسة في السجن، ولا يزال يحتفظ بأعداد منها. لقد حملت السجالات الفكرية والسياسية، والدروس والخبرات، والأدب والفن أيضاً. باختصار، يقدّم فوزي حبشي السجن مرات متتالية على أنه امتداد لحالة النضال وليس قطعاً له. وهو بالضبط ما يعبر عنه ببساطة «لا أفهم النضال من دون تضحية تبني مبادئ وأفكاراً. التعذيب هو جزء من تلك التضحية وجزء من النضال».
لكن خلال رحلة التنقل بين السجون، لم يخفت أبداً عشقه للهندسة. لقد رافقته في كل الزنازين التي زارها، وساعدته دائماً على تغيير ملامح السجن. يروي عن ذلك العشق الذي امتهنه باكراً «التحقت بكلية الهندسة وتعرفت إلى سيد كريم الذي يعد أحد أهم المهندسين المعماريين. ودرستُ الهندسة في زوريخ، وبدأت العمل معه وأنا طالب. وأذكر أني كنت أقيم بمفردي لفترة. وفي أحد الأيام، فوجئت بابن عمي لويس عوض يأتي إليّ هارباً، ويخبرني بأنّهم ألقوا القبض على رمسيس يونان، وأنهم يبحثون عنه واختبأ عندي». له مع الهرب قصص لا تنتهي. حين بدأ القبض على الشيوعيين عام 1959، لاذ بالفرار شهوراً. ولا ينسى أبداً الإشارة المتفق عليها مع زوجته آنذاك: «اتفقت مع زوجتي على أن تنشر فوطة بيضاء على حبل الغسيل لإعلامي بأنّ الطريق آمن... أما غيابها فمعناه أنّ الأمن يحوم في الجوار».
ورغم مرور العقود، ما زال حبشي الذي كان عضواً في «منظمة النجم الأحمر» ـــــ المنظمة الأكثر راديكالية في الحركة الشيوعية المصرية آنذاك ـــــ يدافع بحماسة عن وجهة نظره، حين يؤكد أنّ انتصار أكتوبر العسكري صاحبه انتكاس سياسي... وأن تحرير فلسطين لا ينفصل عن تحرير القاهرة... وأن الصراعات الداخلية أدت إلى تأخير الحركة... وأنّ عبد الناصر كان «عظيم المزايا... عظيم الخطايا».
بصفاء ذهن وهدوء، يستعرض فوزي حبشي خياراته والأحداث التي عايشها ويؤكد أنّه راض تماماً عن خياراته والثمن الذي دفعه. ويتذكر كيف وجد نفسه يوماً في موقع الزوار، فيما ابنه ممدوح وراء القضبان: «عندما زرتُ ابني في السجن عام 1971 على خلفية اعتصام شارك فيه في كلية الهندسة للمطالبة بتحرير سيناء، أحسستُ بالفخر حين رأيته متماسكاً وصلباً بين زملائه... أحسست أيضاً بأنّ ما بذلناه لم يذهب سدى، لأن هناك جيلاً جديداً بات جاهزاً كي يتسلم منّا الراية ويكمل المسيرة».


5 تواريخ

1924
الولادة في المنيا ــ صعيد مصر

1946
تخرج من كلية الهندسة في جامعة القاهرة

1947
ألقيَ القبض عليه للمرة الأولى، وتوالت زياراته للسجن حتى عام 1987

2004
نشر سيرته الذاتية «معتقل كل العصور» (دار ميريت)

2010
صدرت الطبعة الثانية من سيرته الذاتية وترجمت إلى الإنكليزية