بين خمر الحياة الدنيا وخمر العشق الإلهي

Liban Jazz يقدّم العازف التونسي المعروف، غداً الأحد، في الـ«ميوزكهول». بعد حفلاته المصريّة، يحلّ «الصوفي الإلكتروني» للمرّة الثالثة ضيفاً على بيروت، مع الحلاج وابن الفارض وأبو نواس، رفاق أسطوانته الجديدة

أحمد الزعتري
Abu Nawas Rhapsody هو الألبوم السادس لظافر يوسف (راجع الكادر). الشغف وحده يدفعه إلى الخوض في مناطق معتمة في التراث الموسيقى والشعري للمنطقة. في «خمريات أبو نوّاس» (Jazzland)، يأخذ صاحب التجربة الموسيقيّة الأكثر تمرّداً، الجاز إلى درجة التطريب، أو إلى أقصى ما يمكن لموسيقى ولدت في الجانب الآخر من العالم، أن تصله من مفهوم شرقيّ صرف كالطرب.
نشأ الصبي الذي ولد في المقلب الآخر من الوطن العربي، في مدينة طبلبة الساحلية في تونس (1967)، ليصيد السمك أو يزرع كمصدر للرزق. كان العالم يغلي في نهاية الستينيّات. بعد عامين من ولادته، وقف جيمي هيندريكس وجو كوكر وجانيس جوبلين يستبدلون الوجه الهادئ للعالم بوجه ثوريّ في مهرجان Woodstock في أميركا، وكان الجاز يختفي عن تلك المنصة.
بعد سنوات، كان الطفل ظافر يمشي على شاطئ مدينته الصغيرة، ليجد علب سردين، وعصي عجلة دراجة هوائية، وشبكة صيد ممزّقة من بين النفايات المرميّة على شاطئ مهمل... تلك كانت المواد التي صنع منها عوده الأوّل! كان كل شيء مهيّأً كي يعيش يوسف حياة «طبيعيّة». ارتاد المدرسة الدينيّة التي أقامها جده المتصوّف الذي أتى من الأندلس، وبالكاد استطاع والده توفير طعام لثمانية أطفال. لكن الموسيقى التي كان يستمع إليها من الراديو سرّاً، ستجعل منه إنساناً آخر.
شعر صديقنا بحاجة إلى عود حقيقيّ. ومن أجل جمع ثمنه، غنّى في حفلات الزفاف، وهذا العود رافقه في رحلته إلى أوروبا حتى اليوم. في التاسعة عشرة، ترك يوسف كل شيء وهاجر إلى النمسا، مطبقاً قول أندريه جيد: «ليس هناك شيء أكثر خطورة عليك من عائلتك». هناك، عاش أكثر مراحل حياته خصوبةً، عمل نادلاً في مطعم إيطالي، غسل الصحون ونظف الشبابيك. في الوقت نفسه، عزف مرة كل شهر لمدة سنة في The Jazz club Porgy & Bess. كل مرة، كان يرتجل شيئاً مختلفاً بمرافقة عازفين مختلفين. هكذا ولدت أسطوانة «ملاك» (1999) من صلب تجربة موسيقيّة عالميّة كان يوسف محرّكها، فضمّ الفريق عازفين من جنسيات مختلفة في توليفة موسيقيّة غير واضحة، لكنها وسّعت ليوسف الأفق الذي يحتاجه. أغوت تجربة «ملاك» شركة الإنتاج Enja، فدفعت بظافر إلى مغامرة أخرى. مسرح المغامرة الجديدة هذه المرة كان نيويورك، مع موسيقيين مثل عازف الغيتار النمساويّ فولفغانغ موتشبيل، وعازف الترومبيت الألماني ماركوس ستوكهاوسن. مستعيناً بأصوات إلكترونيّة مخدِّرة تقترب من المشروع الغنائيّ الصوفيّ بوصفها موسيقى تبحث عن التجلّي. كانت أسطوانة «صوفية إلكترونية» (2002) نتيجة هذه المغامرة. وقتها اتضحت التوليفة: جاز بجرعات عالية، موسيقى إلكترونيّة في خلفية بطيئة تمنح المشهد الخَدَر الذي يلزمه، وعود يحافظ على مركزيّة اللحن، وصوت يوسف التلقائيّ.
جاز بجرعات عالية وموسيقى إلكترونيّة في خلفية بطيئة وعود يحافظ على مركزيّة اللحن
جاءت أسطوانة «نبوءة رقميّة» (2003) لتعزّز الاتجاه الذي اتخذه يوسف. الفرق الوحيد بينها وبين الأسطوانتين السابقتين، هو إدخال البيانو لأول مرّة. بدا يوسف هنا أكثر اطمئناناً إلى التأليف الموسيقيّ. هذا ما يظهر واضحاً في مقطوعة «آية 1984»، حيث منح تواري الجاز عن الجملة الموسيقيّة حريّة للتوزيع بطريقة تقترب من التوزيع الأوركستراليّ. سنة 2006 كانت مهمّة في مسيرة يوسف، إذ أصدر أسطوانة «ظلال إلهيّة» بالنَّفس المنفتح نفسه، وفاز بجائزة BBC للموسيقى العالميّة. وفي العام التالي أطلق أسطوانته «توهّج».
في «خمريات أبو نواس»، أسطوانته الجديدة التي سيقدّم غداً بعضاً منها في بيروت، بعد الإسكندريّة والقاهرة،، ثمة عودة مشرقة إلى الجاز مع الأرمني تيغران همسيان الذي يتقاسم معه تأليف بعض المقطوعات. مقطوعة «خمسة» هي أول ما يأسر الأذن في الأسطوانة. وإذا كان هدف يوسف إثبات رؤيته الموسيقيّة في المزج بين الموسيقى الصوفيّة والجاز، فقد أثبتها هنا، حيث البداية البطيئة والمُسكِرة، ثم الصعود بالنغمة وتكرارها على مراحل عدة حتى التجلّي. وبما أن الناي هو الآلة المفضلة لدى المغنيين الصوفيين، لأنها متطهرة من اللسان، فإن صوت يوسف يخرج هكذا، غير رطب ومن القلب مباشرة.



من "Sacré"







لكن ما الذي يجعل أبو نوّاس صوفيّاً، وهو أكثر الشعراء العرب «شعوبيّة»؟ بعد الاستناد إلى نصوص شعريّة ونثريّة من ابن الفارض والحلاج وغيرهما، يستعيد ظافر خمريات أبو نواس الذي اتهم بالزندقة والمجون، وسجن لأكثر من مرة في عصر الدولة العباسية. هكذا أعطاه بعداً جديداً، غير متوقّع من وجهة نظر تقليديّة وحرفيّة. جامعاً بين خمر الحياة الدنيا وخمر العشق الإلهي. أبو نواس الذي تحرق اليوم كتبه، كان في حاجة إلى من يخرجه من دائرة «الأصوليّة» إلى آفاق تأويل جديدة. كتب أحد النقّاد الأجانب مرحّباً بالتجربة: «في عالم ما بعد 11 أيلول الذي ينجذب إلى التطرف، تأتينا نسمة هواء عليل من موسيقيٍّ يحاول الترويج لثقافة التسامح ورؤية بديلة للثقافة العربيّة والإسلاميّة. ورغم ثغاء الأئمة السفليين والوهابيين، يثبت يوسف أن الموسيقى لا تزال مصدر فخر للعرب». قد ننظر بالريبة إلى هذا الكلام: ليس مطلوباً من الموسيقيّ العربيّ أن يكون «سفيراً للشرق» كما يقول ظافر. لكن المطلوب من كل موسيقيّ متمرّد أن ينبش مواطن الضوء والتجلّي والتنوير في تراثنا الذي لطالما ظلمناه.


9:00 مساء غد الأحد ــــ «ميوزكهول» (ستاركو) ــــ للإستعلام:03/807555
www.libanjazz.com

www.dhaferyoussef.com