بعد ساعات قليلة على إعلان مغادرة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى السعودية، كان روّاد الإنترنت يشاهدون عبر موقعَيْ «يوتيوب» و«فايسبوك»، شريط فيديو مؤثراً لمواطن تونسي يهتف في شارع الحبيب بورقيبة: «المجد للشعب... بن علي هرب... بن علي هرب». ما هي إلا أيام، حتى تحوّل الفيديو إلى مادّة ترويجية للثورة التونسية، على قناة «الجزيرة الفضائية». لم يكن هذا الفيديو أولى المواد التي تنتقل من العالم الإلكتروني إلى الشاشة الصغيرة، إذ اعتمدت التغطية الإخبارية للثورات المتلاحقة في دول الوطن العربي، في جزء أساسي منها، على الأفلام التي التقطها مستخدمو الإنترنت. وقد تكون «الجزيرة» أكثر المحطات الفضائية استخداماً لهذه التسجيلات، في ظلّ غياب ملحوظ لمراسليها الميدانيين، الذين حوّلتهم الحروب السابقة إلى نجوم.
النقاش حول دور الإنترنت في هذه الثورات لا يزال في بداياته. ولا أحد يستطيع الادّعاء أنّه بات يملك إجابات شافية عن حجم هذا الدور، مدى تأثيره وفاعليته. فلا يمكن دراسة تحرّك شعبي جماهيري بهذا الحجم، من خلال عامل واحد، هو طرق التواصل التي اعتمدها، وشكّل من خلالها فضاء عاماً، يسمح بولادة وعي ويؤسّس لحراك. هناك عوامل عدّة يجب أخذها في الحسبان، منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. لذلك، لا تعدّ محاولة قراءة التغطية الإعلامية لهذه الثورات، من قناة «الجزيرة» تحديداً، وتعاونها مع شبكات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، إلا مقاربة لواحد من العوامل المؤثرة في التحرّكات الجماهيرية القائمة.
ويعود اختيار «الجزيرة» دون غيرها لأسباب عدّة، أهمّها أنّها واحدة من القنوات الأكثر متابعة من الشعوب العربية، وقد رفع شعارها في عدد كبير من التظاهرات وفي أكثر من دولة. كذلك كوّنت مادة عدد من المقالات والدراسات في صحف ومجلات أجنبية، تحت عنوان «ثورة الجزيرة». وقد يكون هذا ما جعل المشاهدين الأميركيين يطلبون من الشركات الموزّعة للمحطات، الحصول على خدمة القناة الإنكليزية. مضمون معظم هذه المقالات يؤكد الدور الكبير الذي أدّته هذه القناة لمصلحة معظم الثورات التي تشهدها الدول العربية. يكتب مارك لينش، المحاضر في جامعة جورج واشنطن والمتخصّص في وسائل الإعلام العربية: «قد لا تكون الجزيرة سبب هذه الأحداث، لكن من المستحيل الاعتقاد أنّ كلّ ما حصل كان يمكنه أن يتحقق من دونها».
هي «الثورة متلفزةً» إذاً، بخلاف ما تقوله كلمات الأغنية الأميركية الشهيرة «الثورة لن تعرض على التلفزيون» (the revolution will not be televised). أغنية الأميركي الأسود، جيل سكوت هيرون، قدّمت عام 1970، نقداً قاسياً للتلفزيون والتسليع الذي تنتهجه وسائل الإعلام الجماهيرية. لكنّها انتهت بعبارة «الثورة لن يعاد بثّها يا رفاق، الثورة ستكون مباشرة».
بعد نحو عشرين عاماً، وفي خضّم الثورات الحاصلة في دول أوروبا الشرقية، نقل التلفزيون فعلاً ثورة على الهواء، من دون أن يقصد، ومن دون أن يتخلّى عن وظيفته في تغليب الإثارة على الحقيقة. ففي 21 كانون الثاني 1989، دعا الرئيس الروماني نيكولا تشاوشيسكو إلى مهرجان جماهيري، وأعدّ خطاباً ليدحض ما تناقلته وسائل الإعلام عن مجازر ارتكبت بحق المعترضين على حكمه في مدينة «تيموشوارا»، قبل أسبوع. بعد ثماني دقائق على بدء إلقائه الخطاب، هتفت الجماهير العريضة «تيموشوارا»، واستمع مشاهدو التلفزيون إلى تشاوشيسكو يصرخ بالجماهير «آلو... آلو... كلّ إلى مكانه...»، قبل أن يُقطع البثّ. في اليوم التالي، نجح الثوّار في السيطرة على مبنى التلفزيون، وصار نقل «الثورة» تلفزيونياً مقصوداً من الثوار، الذين بثّوا عملية إعدام تشاوشيسكو وزوجته في 25 كانون الثاني، وأعدّوا زيارة لمدينة «تيموشوارا»، لكشف المجزرة التي قيل إنّ تشاوشيسكو ارتكبها هناك. وكان لافتاً تنافس وسائل الإعلام الفرنسية على نقل الأحداث مباشرة أيضاً، ما أوقعها ضحية التضليل الذي مورس من الثوار. ذلك أنّ الجثث التي عُرضت على أنّها لـ«ضحايا دراكولا» (كما سُمّي تشاوشيسكو في الصحافة الفرنسية) وقيل إنّ عددها تجاوز عشرات الآلاف، ثم حدّد بـ4630 جثة، كانت قد سُحبت من مقابر المدينة.
هذه التغطية التلفزيونية للثورة الرومانية، تعدّ أبرز الأمثلة على حجم التضليل الذي يمكن أن يمارسه التلفزيون ووسائل الإعلام، خصوصاً أنّ إطاحة تشاوشيسكو تزامنت مع إطاحة القوات الأميركية الرئيس البنمي مانويل نورييغا، في عملية وصفت يومها بالنزهة، وتبيّن لاحقاً أنّها أودت بحياة ألفي شخص، لم يأتِ الإعلام على ذكرهم.
استعادة هذه الحادثة لا يعني أنّ القنوات الفضائية تمارس في تغطيتها للثورات العربية التضليل ذاته. لكنّه أيضاً لا يعفيها من تهمة المبالغة في نقل الأحداث لمصلحة طرف دون آخر، يساعدها على ذلك أنّ ممارسات الزعماء الذين يتهاوون، تسمح بتصديق كلّ ما يقال عنهم وعن ارتكاباتهم. تماماً كما كانت عليه حالة تشاوشيسكو. وإن كانت المحطات تستطيع الدفاع عن نفسها، والقول إنّها ممنوعة من الوصول إلى مكان الحدث. لكن من يجبرها، مثلاً، على استضافة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ يوسف القرضاوي، للإفتاء بأمر سياسي (كهدر دم الزعيم الليبي معمّر القذافي)، وإقامة جلسات دعاء مباشرة على الهواء (حتى وإن كانت تحاكي فعلاً الضمير العربي العام؟).
هذا جانب من نقاش مهني، يمكن بحثه والاستفاضة فيه. إلا أنّنا نكتفي منه بالإشارة إلى اتهامات التسييس التي تطلق ضد «الجزيرة»، المتعاطفة مع الثورات كما يبدو واضحاً، والدولة التي تحتضنها. رؤساء الأنظمة المهدّدون بفقدان عروشهم، هاجموا القناة قبل مهاجمتهم الثوّار. بدءاً بتونس، مروراً بمصر واليمن، وصولاً إلى ليبيا. أما في البحرين، فالوضع مختلف، وهو اختلاف لا يُفترض بنا تجاهله في معرض تحليل الدور الذي تؤديه القناة، والذي اضطلعت به منذ انطلاقتها قبل 15 عاماً.
يعترف أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، في مقابلة أجرتها «فاينانشال تايمز» معه في 24 تشرين الأول 2010، بأنّ القناة تمثّل فعلاً مشكلة كبيرة له «في السابق توقف عدد من رؤساء الدول العربية عن الكلام معي». وهم عندما عادوا إلى الكلام معه، كانت «الجزيرة» محور الكلام، طالبين ألا تتابع حدثاً معيّناً، أو أن تغضّ النظر عن قضية معينة. حتى إنّ إعلان زيارة الرئيس المصري حسني مبارك لقطر، عشية الانتخابات المصرية الأخيرة، فُسّر على أنّه لطلب عدم تدخّل «الجزيرة» في الانتخابات. والجميع يتذكّر الزيارة المفاجئة التي قام بها آل ثاني، مع ضيفه مبارك قبل عشرة أعوام للقناة، وكانت لا تزال في مقرّها القديم، حيث أطلق وصفه الشهير لها بـ«علبة الكبريت». هذه المواقف لم تدفع أمير قطر إلى اتخاذ قرار إقفالها، إلا أنّنا كنا نلاحظ تغيّراً في سياسة القناة تجاه قضية معيّنة (البحرين مثلاً راهناً)، هو الذي يعيد سبب إنشائها إلى رغبته في أن يفهم «الشعب في الشرق الأوسط ما يدور حوله وأن يناقشه بحرية».
وسواء كانت هذه النية صادقة أو لا، فقد نجحت «الجزيرة» فعلاً في هذه المهمة. واستطاعت أن تخلق مساحة جديدة للحوار والنقاش، أو «فضاءً عاماً» (espace public)، وفق تعريف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس لهذا الفضاء على أنّه «المساحة أو الحيّز الذي يتيح للمجتمع الأهلي أن يناقش السلطة ـــــ الدولة، وينتقدها». وقد أعار هابرماس أهمية كبيرة للصحافة في تكوين هذا الفضاء، ونقله من الصالونات المغلقة إلى جمهور أوسع. لكن مع تغيّر وظائف الصحافة، وتحوّلها إلى صناعة تبغي الربح، ومع ولادة التلفزيون القائم على الترفيه والتسلية والإعلانات التجارية، تعدّدت «الفضاءات العامة» أو «تشظّت». ساهم الإنترنت أيضاً في ولادة «فضاء عام» جديد، كان الباحثون يكتبون أنّه لا يزال في طور التحقق، وأنّ معالمه لم تتبلور بعد، وإن تحدّثوا عن «ديموقراطية إلكترونية» تؤسس لتطوّر سياسي. تماماً كما كان يقال إثر ولادة كلّ تقنية إعلامية.
في الدول العربية، يمكن الاستفاضة في شرح تشظيات «الفضاء العام»، منذ انطلاق الصحافة المكتوبة، مروراً بالإذاعات فمحطّات التلفزيون والفضائيات، وصولاً إلى الإنترنت. تشظيات مرتبطة أيضاً بالتغيرات السياسية، والتحوّلات التي شهدتها هذه الدول، ولكلّ منها خصوصيته.
في هذا الإطار، من المفيد الإشارة إلى توقيت ولادة «الجزيرة» في وضع عربي مأزوم، أهم ميزاته افتقار كلّ زعمائه إلى شرعية شعبية. في ظلّ أزمة التمثيل السياسي هذه، وانهيار الأحلام الكبرى التي أجّجت حماسة شباب الستينيات والسبعينيات، انطلقت «الجزيرة» لتنتج «فضاءً عاماً» جديداً كان يفتقر إليه المواطن العربي. وهنا نشير إلى جملة قالها أمير قطر في مقابلته الأخيرة، وهي أنّ القناة تستخدم العربية الكلاسيكية في خطابها، لا اللهجة المحلية. لأنّها بالفعل إشارة غير بديهية، حتى إن كانت معظم الفضائيات العربية تستخدم في بعض برامجها العربية الكلاسيكية أيضاً. القناة تتوجّه إلى «شارع عربي»، بكلّ ما تحمله هذ العبارة من معان غير مرئية. هذا الشارع الذي لم يخذل أبناؤه بعضهم بعضاً. قليلة هي الأحداث التي أصابت أبناء قطر ما، ولم تتفاعل معها باقي الأقطار. هذا «الشارع العربي» وجد له فضاءً عاماً جديداً من خلال «الجزيرة». ولا بأس هنا في استعادة محطات رئيسية في عمل هذه القناة، لكي نفهم كيف تطوّر هذا الفضاء، ونقدّر حجم التأثير الذي تمارسه، لا سيما في تغطيتها الحالية للثورات الجارية.
تألّفت محطة «الجزيرة» في تشرين الأول 1996، من فريق العمل الذي كانت هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» تعدّه لإطلاق قناة تلفزيونية باللغة العربية، بالشراكة مع السعودية، إلا أنّها لم تكمل المشروع بسبب خلافات على إدارة المحطة وحجم تدخلها في سياستها. ومنذ ولادتها في قطر، بعد أكثر من عام على توّلي الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني إمارة قطر، أثارت «الجزيرة» سجالات واسعة بدأت عربية، (خصوصاً أنّها القناة الأولى التي استضافت إسرائيليين في برامجها) ثم غربية. إذ لم يطل احتفاء أميركا بها مع بدء تقديمها مقاربة مختلفة للأحداث، بدءاً بتغطية عملية «ثعلب الصحراء» في يناير ـــــ كانون الثاني 1998، التي قصفت خلالها أميركا مرافق حيوية عراقية على مدى أربعة أيام، بحجة عدم تعاون العراق مع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. كانت هذه المرة الأولى التي يكسر فيها احتكار محطة «سي إن إن» الأميركية لتغطية الحروب، ويرى المشاهد العربي الأحداث بعين عربية.
في أيلول ـــــ سبتمبر من عام 2000، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وبعدها اجتاحت القوّات الإسرائيلية مدن الضفة الغربية في فلسطين. قناة الجزيرة كانت حاضرة ونقلت الأحداث مباشرة. يومها تعرّفنا إلى مراسليها: وليد العمري، شيرين أبو عاقلة، جيفارا البديري. ويومها رسّخت القناة موقعها في الشارع العربي، إذا سلّمنا بأنّ فلسطين هي بوصلة هذا الشارع كما تبيّن مجدّداً في تظاهرات مصر التي تلت تنحّي الرئيس مبارك، حيث سمعنا هتاف «ع القدس رايحين، شهداء بالملايين».
بعد أحداث أيلول 2001، اتسعت شهرة القناة دولياً، من خلال تغطيتها المختلفة للحرب الأميركية على أفغانستان وتحقيقها اختراقات نوعية، من خلال بثّ مقابلات خاصة مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وعرض صور خاصة من كابول. هذه التغطية وضعت القناة في مصاف «الإرهابيين» وقد اتهم مراسلها تيسير علوني بالتهمة عينها (وسجن لاحقاً بهذه التهمة). وفي عام 2003، شنّت أميركا حربها على العراق، ممهّدة لاحتلاله. الجزيرة كانت حاضرة عبر مراسليها، وشهيدها طارق أيوب الذي تعرّض مع فريق القناة لقصف أميركي «مباشر ومقصود»، كما يقال.
لبنانياً، كانت القناة حاضرة، بدءاً من عام 1998 حين زارها برنامج «نقطة ساخنة» مقدماً شريطاً تسجيلياً عن حزب الله، مروراً بتحرير الجنوب عام 2000، اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وما تلاه من أحداث وتحركات جماهيرية، وصولاً إلى عدوان تموز 2006.
في كلّ هذه المحطّات، كانت «الجزيرة» تُتهم سياسياً في مكان، وتلقى احتضاناً شعبياً في مكان آخر. وهذا ما أظهرته القناة نفسها، في المواد الترويجية التي تقدّمها خلال الأحداث الساخنة. فلنتذكر تغطيتها للحرب الاسرائيلية على قطاع غزة، حيث أعدّت مقطعاً ترويجياً يقدّم مواقف الزعماء العرب، ومقطعاً آخر ينقل آراء المواطنين العرب في أكثر من دولة، ومقطعاً ترويجياً ثالثاً، لا يخلو من دلالة، هو الذي يقدّم «الرأي الآخر» الإسرائيلي، فنستمع إلى المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي إفيخاي أدرعي يقول: «لماذا لا تنقلون صور الشيوخ والرجال والنساء في إسرائيل؟ هناك معاناة متبادلة. إنّ اسرائيل تضطر للدفاع عن نفسها». يلي ذلك رصد بالأرقام لما حصل في آخر خمسة أيام من عام 2008: 4 قتلى إسرائيليين، 35 جريحاً، 250 قذيفة محليّة الصنع. في الجانب الفلسطيني، غارات حربية بطائرات إف ـــــ 16، وزوارق حربية، 390 شهيداً فلسطينياً، 2000 جريح فلسطيني.
كان طبيعياً أن يطال نبض الشارع العربي الذي التقطته القناة الفضاء العام الافتراضي أيضاً. في المساحات الحرّة التي أتاحت نقاشاً مفتوحاً وكسراً للمحرّمات، وحوّلت الوعي الفردي إلى وعي عام جمعي، أمكن الشباب أن يستفيدوا من تقنيات التواصل، لينقلوا هموم الشارع إلى الشبكة العنكبوتية من دون خوف... وأن يعيدوه مجدداً إلى الشارع.
نجحوا في الخطوة الأولى، إلا أنّهم لم يكونوا ليحققوا النجاح ذاته لو لم «تتلقّفهم» الجزيرة وتنقل صوتهم وصورهم. يكفي لنصدّق ذلك أن نتخيّل المشهد الإعلامي العربي من دون «الجزيرة». أن نستحضر كلّ آلات الإعلام السلطوي الموجودة، التي هشّمت الفضاء العام على مدى عقود.

* من أسرة «الأخبار»