دقيقة "تعهد"

من اصعب الكتابات، تلك التي تتناول حدثا لا يتوقف عن التطور. هذا بالضبط ما حصل خلال محاولتي الإحاطة بالتداعيات اللبنانية لتعميم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للمدارس الفرنسية بالوقوف دقيقة صمت عن ارواح ضحايا جريمتي تولوز ومونتوبان التي ارتكبهما الفرنسي محمد مراح في فرنسا. لكن القضية الام كانت تتكشف كل يوم عن مستجد، ما جعلها لا تكف عن التضخم ككرة ثلج بمواصلة تدحرجها على الساحة العامة.

والأمر طبيعي، فنحن عشية الدورة الإنتخابية الرئاسية الاولى في فرنسا. وهذا النوع من «الحوادث»، يتحول بسرعة الى مادة نقاش دسمة في ظروف كهذه، فكيف إذا كان الغموض والتسريبات يتحكمون بتفاصيل عملية ملاحقة المتهم وتصفيته، لجهة ما تردد عن علاقة محتملة له بمخابرات فرنسية قد تكون "استعملته وحرقته" كما شككت وسائل اعلام هناك؟ لقد فازت قضية مراح بالإنتباه العام لدرجة ان وقائع حصار المتهم وقتله، تابعها الفرنسيون بما يشبه البث المباشر، على وقع إتهامات متبادلة بين المرشحين، اصحاب البرامج الإنتخابية المتشابهة لدرجة انها لم تعد تصلح أداة مفاضلة للناخب بين اليمين واليسار.
لكن مستجدا آخر دخل على الخط لبنانيا. فقد اخبرتني احدى السيدات ان ابنتها الطفلة ذات الأعوام الاربعة سألتها وهي عائدة بها من المدرسة " ماما ثو بدنا نعمل للاجئين السوريين؟". صعقت السيدة، فالفتاة بالكاد تعلمت الكلام، فكيف تطرح سؤالا كهذا؟ وإذ يتبين لها ان مدرسة ابنتها الأميركية ارسلت لها رسالة تطلب اليها الإختيار بين نشاطات منها: تحضير كرتونة مواد غذائية لمساعدة النازحين السوريين، وربما إضافة بطاقة تضامنية تجعل هؤلاء يشعرون "ان هناك من يهتم لأمرهم".
هكذا، اعاد "التعميم الأميركي" الى ذهني "التعميم الفرنسي"، خاصة لجهة التشابه، ولو من طرف "خفي"، بين المبادرتين: اقصد إقحام الأولاد في قضايا إشكالية سياسية مطروحة على الساحة العامة من الباب الإنساني.
ففي قضية التعميم الفرنسي، واستطرادا للإستخدام الرئاسي لقضية مراح إنتخابياً، من مرافقة وزير الخارجية لجثامين الضحايا الى فلسطين المحتلة لدفنهم هناك، ورفض مدينة تولوز دفن القاتل في اراضيها، اضافة الى رفض بلد اهله الأصلي الجزائر استقبال جثمانه (ربما لنفي صفة جزائري التي اصر الاعلام الفرنسي على التذكير بها برغم انه ولد وتربى في فرنسا، أي انه «منتج سينييه» للضواحي المهملة) اصدر ساركوزي تعميما لمجموع المدارس الفرنسية، ومنها الليسية، للوقوف دقيقة صمت حدادا على ارواح ضحايا تولوز ومونتوبان.
وصل التعميم عبر السفارة الفرنسية، ونقل الى مدراء الليسيه في مختلف المناطق، وكانت ردود افعال من الاساتذة خاصة "المحليين" (والذي يقبضون اقل بكثير من الاساتذة المرسلين من فرنسا) تراوحت بين الحادة في طرابلس، والاقل حدة في مناطق اخرى كليسيه المتحف، والإجماع على الرفض كما في ليسيه فردان. والأمر طبيعي، فمدارس الليسيه قائمة على اراض لبنانية وتلامذتها مواطنون لبنانيون ولاؤهم للبنان، يلتزمون باوامر رئيسهم وليس بأمر "المندوب السامي"المرشح لولاية ثانية. وان كان لهذه الدقيقة من الصمت معنى ما على الاراضي الفرنسية، فمن غير المفهوم طلبها من طلاب لبنانيين لا علاقة لهم من قريب او من بعيد بالقضية برمتها. لقد اراد "ساركو" من أدائه الكاريكاتوري في قضية تولوز، وفي ظل تدني شعبيته وعدم قدرته على «الغرف» من جمهور اليسار المصطف خلف المرشحين: فرنسوا هولاند وجان لوك ميلانشون، ان يغرف من جمهور اليمين المتطرف الذي يحركه الخوف. ففي ظل الخوف تنمو العنصرية، يظهر الغريب الذي ينافسك على فرصة العمل (4ملايين ونصف مليون عاطل) الغريب الذي يستفيد من برامج المساعدات الإجتماعية، العنيف، ذو المراجع الحضارية المختلفة وبالتالي الغريبة. وبما ان الوقت، بطبيعته الإنتخابية، يجري بسرعة، يفرض الخوف على وقع حوادث كهذه برنامجا إنتخابيا آخر قائما على لحظة الإنفعال.
لكن، ما دخل الطلاب اللبنانيين؟ لا يمكن للمراقب الا ان يجد رابطاً بين هذا التصرف وتصرف المدرسة الأميركية. فهذه الاخيرة طلبت في رسالتها التي حصلت "الأخبار" على نسخة منها الإختيار بين نشاطات عدة منها (وقد كتب هذا السطر بالخط العريض): «إعداد أحزمة من أجل إغاثة اللاجئين السوريين عبر التّبرّع بالمواد الغذائيّة والمؤونة وتسليمها إلى إدارة المدرسة قبل ٢١ نيسان"، لكن هناك تفاصيل اخرى. تسأل الام ابنتها: مين خبرك يا ماما عن اللاجئين السوريين؟ تجيب الصغيرة ان «غريد فايف» وهو صف اعلى، دخلوا الى صف التلامذة الأصغر وشرحوا لهم. ماذا شرحوا لهم، لا نعرف على وجه التحديد، ومن شرح ل"الغريد فايف" إذا هذه القضية؟ ماذا قيل لهم؟ لا نعرف. من هو صاحب المبادرة؟ لجنة الاهالي؟ تجيب السيدة : بل الإدارة.
بالطبع لا يمكن لأحد ان يكون ضد مساعدة لاجئين، أسوريين كانوا ام هولنديين. لكن أليس عجيبا، من بين كل القضايا الإنسانية، ان يكون قلب مدرسة اميركية على النازحين السوريين! وبكل الأحوال السؤال ليس هنا إطلاقا. السؤال هو التالي: بأي حق تدفع إدارة مدرسة بتلامذتها، في خضم موضوع إشكالي ومسيس بهذه الطريقة، ويعاني من تجاذب محلي بصبغة طائفية؟
من يراقب أداء التعليم الخاص؟ لولا وعي تلامذة طرابلس التي انطلقت منها شرارة الإحتجاج، لما كان احد سمع بتعميم ساركوزي. فالموضوع جرت "لفلفته" بطلب حسب ما قيل لنا من السفارة الفرنسية "لعدم تعريض امن الفرنسيين في لبنان للخطر". كأن الطلاب هم من يضعون امن المواطنين الفرنسيين في خطر لا رئيسهم المعلق العينين بالخط البياني المنحدر لناخبيه. ماذا تريد فرنسا وارسالياتها «العلمانية»؟ ان تتحول الى بديل عن وزارة التربية اللبنانية باستتباع الطلاب اللبنانيين الى قضايا اشكالية فرنسية تستخدم في إنتخابات رئاسية؟ ماذا تريد المدرسة الأميركية من الاولاد؟ سرقة رأي عام شبابي تحت ستار إنساني؟ من يرسلون اولادهم الى «البعثة العلمانية الفرنسية» هم في جزء مهم منهم مواطنون قرفوا من الطائفية، يحاولون ان يعطوا اولادهم «تتمة تربوية علمانية» تعوّض عن التمذهب المضطرد للمجتمع اللبناني. فعلام حصل هؤلاء؟ لقد شكلت دقيقة الصمت تلك، توقيتا مزدحما لتظهير كل العقد والإنحرافات في العلاقة ما بين اللبنانيين والفرنسيين. ما بين صورة «الجمهورية العلمانية» في اذهان الناس وحقيقتها خارج أرضها خصوصا في "المستعمرات" السابقة: معقلا في احيان كثيرة لنوع مستمر من «الإنتداب» بكل تعاليه الغبي وإلغائه للآخر، القاصر. هل هذه مبالغة بالإنفعال امام حادثة بسيطة؟ وهل هي بسيطة محاولة رئيس دولة اخرى، ان يصدر اوامره لقاصرين لبنانيين على ارضهم الوطنية، من دون حتى استشارة اهاليهم؟ ماذا يسمى هذا في القانون؟ التغرير بقاصر؟ لم يجد مدير ليسيه المتحف حرجا من ايقاف اطفال في صفوف ابتدائية احتجاجا على مأساة ارتكبها، ما يُراد له الإيحاء بأنه شبيههم: عربي عنيف يكره اليهود. متجاهلا انه مواطن فرنسي ربي في احضان السياسات العنصرية لحكومات فرنسا بالنسبة للضواحي التي لا تحوي فقط مهاجرين او مواطنين من اصول مهاجرة كما توحي الكليشيه، بل فرنسيين اقحاح ومهمشين ايضا كل ذنبهم انهم فقراء.
كان على أطفال لبنان ان يقفوا كنوع من التعهد، بأن نوايا مشابهة لن تراودهم في المستقبل. "دقيقة تعهد" وليس دقيقة صمت.
هل يلام المدير الإستعماري على تصرفه ذاك؟ لا اظن. فنحن، ومنذ زمن بعيد سلمنا زمام التربية الوطنية لكل انواع الإرساليات والأجانب بحجج مختلفة: تارة ليعلمونا اللغات، وتارة هروبا من مدارس الطوائف الأخرى، وتارة هروبا من الأمية التي يتخرج بها بعض طلابنا من المدارس الرسمية. في كم كتاب تاريخ يقرأ اطفال لبنان؟ كم نوعا من الإرساليات تفرغ معتقداتها في عقول اولادنا؟ ما هو دور لجان الاهل؟ هل لهم دور رقابي على من يريد التلاعب بعقول اولادهم؟ وان ارادوا ان يشتكوا، فهل هناك حقيقة من يستمع اليهم؟
وارفعوا نظركم قليلا الى قدامى التلامذة، تلامذة التعليم الخاص، تلامذة الارساليات المتناقضة وقد اصبح كثيرون بينهم في سدة السلطة: من سيدافع عن التربية الوطنية وقد رضع الولاء لبلاد اخرى، وتعلم ان يقف متأدباً كالخادم في حضرة المستعمر القديم ؟

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 4/7/2012 9:54:19 AM

شكراً لضحى شمس التي كالعادةأضاءت بشيءٍ من شمسها على هذا الحدث. أظهرت حادثتين متوازيتين في الظاهر، ولكنهما تلتقيان في العمق. الذي حصل ليس بريئاً ... وبدنا كتير إسّا!! اسبرانس http://www.albayanlebanon.com/news.php?IssueAr=227&id=10826&idC=4 هذا ما حدث في مدرسة الليسيه في الكورة

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم