تونس | «فايسبوك»، بهذا العنوان يقدّم مسرح «فو» هذه الأيام رؤيته الخاصّة لما سمّي الثورة التونسية. انطلقت عروض المسرحية أخيراً في فضاء «مدار قرطاج» في الضاحية الشمالية للعاصمة. امتلأت قاعة Lez’art بجمهور جاء ليبحر في الثورة، وسط إضاءة خافتة وديكور متعدّد الوسائط. منذ أواسط السبعينيات، برزت أولى المؤسسات الخاصة التي خلقتها حاجة الفنانين إلى مسرح مستقلّ عن القطاع العام. تمثّل ذلك في «المسرح الجديد» (1975) الذي انبثقت عنه لاحقاً التجارب المستقلة للفاضل الجزيري (تونس للإنتاج)، والفاضل الجعايبي (فاميليا) ومحمّد إدريس (المسرح الوطني).
كذلك تأسّس مسرح «فو» أواخر عام 1979 وكوّن نواته الأولى توفيق الجبالي، ورجاء بن عمّار، والمنصف الصايم، ورؤوف هنداوي. كانت أوّل إنتاجاته مسرحيّة «تمثيل كلام» (1981)، قبل أن يستقل توفيق الجبالي ويؤسّس فضاء «التياترو». غير أنّ الثنائي المنصف ورجاء قرّرا مواصلة مسيرة «فو» من دون «مأوى» لغاية تأسيس فضاء «مدار قرطاج» عام 1993. تميّزت إنتاجاتهما في تلك الفترة بالتنوّع، وتحديداً في المسرح الراقص. ولم يخلُ تاريخ «فو» من حقبات سوداء كإغلاق الفضاء بضغط من سلطات بن علي من كانون الأول (ديسمبر) 2002 حتى آذار (مارس) 2009. وبعد افتتاحه مجدداً، أنتج مسرح «فو» عرضين ومهرجاناً للرقص المعاصر. وها هو يقدّم عرض «فايسبوك» الذي يعيد رجاء بن عمّار مخرجة، وممثّلة وراقصة ومصمّمة لهذه المسرحيّة. تعود فكرة المسرحيّة الى سنتين. عُرضت للمرة الأولى أمام لجنة الرقابة في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010 أي قبل يوم واحد من إحراق محمد البوعزيزي نفسه. تسارعت الأحداث بعد ذلك، فلم يتمكن فريق العمل من العودة إليه قبل آذار (مارس) 2011 ومواكبة التحوّلات التي شهدتها تونس منذ عرض النصّ على اللجنة.
قاعة Lez’art التي احتضنت عرض «فايسبوك»، ليست فضاء مسرحياً بالمفهوم الكلاسيكي يتكوّن من خشبة وجمهور. إنها فضاء مفتوح لا يفصل بين الممثلين والمشاهدين فيه إلا الهواء. هكذا، جاء الفضاء مفتوحاً على شكل رواق، عُلِّقت على جانبيه شاشات تحيلنا إلى العالم الافتراضي. هناك أيضاً تستقرّ سيّارة مقلوبة وشاشة عرض، ورجل ملفوف بنسيج العنكبوت، وحائط منزل. الفضاء يتكوّن من مجموعة ثنائيّات: أبيض وأسود، متحرّك وساكن، غوغائيّ وصامت، مستسلم وثائر. من هذه الثنائيات، تولد شخصيّات متعدّدة تعيش في بناية واحدة وتجري الأحداث في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010. نشاهد ربة المنزل (رجاء بن عمار) التي تستعد لـ«الاحتفال»، فيما التلفزيون يبثّ فيلماً لإيتوري سكولا عن الفاشية. سنفهم لاحقاً علاقته بمضمون المسرحيّة عندما تبدأ ربّة المنزل بدعوة أطفالها للخروج احتفالاً بـ«7 نوفمبر». هذا التاريخ الذي لطالما كرّس ديكتاتورية بن علي منذ أن أصبح ذلك اليوم عطلة رسميّة للاحتفال بـ«التغيير المبارك» الذي شهد تسلّم زين العابدين بن علي السلطة في تونس. في طبقة أخرى من المبنى، هناك صحافي (المنصف الصايم) يعيش منعزلاً، يراقب العالم الخارجي من برجه. وفي طبقة أخرى، نشاهد المدوّنة المناضلة (رندا الدباغ) التي تقضي ساعات على شاشة الكومبيوتر. إنّها إعادة تركيب لفيلم «يوم خاص» (1977) لإيتوري سكولا الذي يستعيد أحداث يوم واحد في شقة، ولقاء ربة المنزل والصحافي في الوقت الذي تحتفل فيه المدينة بـ«الديكتاتورية». هكذا تقدّم لنا المسرحية ثلاث شخصيات هي: المرأة، المثقف، والشابة المناضلة. تلتقي هذه الشخصيات في فضاء افتراضي وواقعي في آن، راصدةً وقائع الثورة منذ إرهاصاتها الأولى، وصولاً إلى عبارة Dégage الشهيرة. لكنّ مسرحيّة «فايسبوك» ليست نسقاً أدائياً واحداً. إنّها مجموعة من اللوحات المتواترة، سواء من حيث الموضوع أو من حيث التقنية، ترصد لحظات تطوّر الحراك الشعبي في تونس بأدوات الكوريغرافيا والموسيقى والألعاب البهلوانيّة وخيال الظل. المدونة المجهولة الملامح، قد تكون المرأة والوطن والثورة معاً. ترقص حيناً وتمشي على عكاز أحياناً. لا تتوقّف المفاجآت هنا. في لقطة مشحونة بين رجاء بن عمّار والمنصف الصّايم، يخرجان عن النصّ وينخرطان في رقصة تنتهي بقبلة، تعيدنا إلى واقع المرأة التونسية ووهم التحرر الذي ظلّ حبراً على ورق في مجلة الأحوال الشخصية.
من خلال «فايسبوك»، نجح مسرح «فو» في هضم التحوّلات التي شهدتها بلاد الطاهر الحداد منذ أكثر من عام حتى اليوم، من دون الوقوع في الكليشيهات والحسّية. هذا الرهان الناجح جاء بفضل وسائط عدة ومتنوّعة لجأت إليها بن عمّار كالكوريغرافيا، وألعاب الفيديو، وخيال الظلّ، والعنصر السمعي، لنخرج بلوحة تعكس الثورة بلغة أخرى غير الكلمات.

«فايسبوك»: الخميس والجمعة والسبت ــــ فضاء «مدار قرطاج»، تونس ــــ madartcarthage.over-blog.com



المسرح الزياح

تحكي رجاء بن عمار اليوم لغة فايسبوك. قبل سنوات، أنجزت عرضاً على طريقة «الراب». النطق بلغة الشارع، هذا ما تواصل فعله منذ تأسيسها مسرح «فو»، مع رفيق دربها المنصف الصايم. فرقة «فو» كانت ثاني فرقة مسرحية محترفة في تونس، وقدّمت أعمالاً مسرحيّة مهمة، منها «بياع الهوى» (1995)، و«ساكن في حيّ السيدة» (1989)، و«هوى وطني» (2005). في فضاء المسرح العربي، تعدّ رجاء بن عمار وجهاً أساسياً، وخصوصاً من خلال تجربتها في دمج النصّ، والأداء المسرحي، بالرقص التعبيري، إضافةً إلى إرسائها تقليد «المسرح الزياح». يتذكّر الجمهور البيروتي الزياح الخاص الذي قدّمته في عرض «الفقاعة» ضمن «مهرجان الربيع» في دورته الأولى عام 2009. التحقت بن عمّار في بداية مسيرتها بفرقة «الكاف» في عهد مؤسسها المنصف السويسي، وعايشت تجربة «المسرح الجديد» في تونس. وها هي تدير اليوم إلى جانب منصف الصايم فضاءها المسرحي الخاص في فضاء «مدار قرطاج».