هذا ما حكاه الأعرابي بكري، قصاص الأثر: «حين رأيت النجوم لامعة تلك الليلة، عرفت أن صبيحتها موت أحد. كانت نجمة الضيفان تلمع برتابة نعرف سرها وحدنا. مثل هذا اللمعان، يعني أن أحد أهل القرية سيكون ضيف الله. وحين حل الفجر، كان الضباب يلف الأشياء معلناً موت أحدهم. ضوء الصبح كان كلون اللبن العكر. حلبت ناقتي وجلست أنكت الرمل أمام بيتي منتظراً أن أسمع الصائح يخبر بالموت».
انتظر الأعرابي مرور الصائح الذي يدعو الناس إلى العزاء، لكنّ الصائح تأخر. وعوضاً عن صوته، جاء صوت الصراخ والعويل ليجتاح المكان. الموت لم يكن عادياً، بل جريمة قتل مروعة، هزت القرية الصغيرة الهادئة حيث تدور أحداث رواية السوداني حمور زيادة وهي بعنوان «الكونج» («دار ميريت»). القتيلة هي شامة على الله، العجوز التي وجد الناس رأسها مفصولاً عن جسدها وملقاة في ركن الحجرة. القاتل لم يسرق شيئاً. وذاك المصير المروّع كان قد توقّعه بعض الناس لابنتها رضوة التي تشوب سمعتها الشوائب. ولم تكن المشكلة في اكتشاف القاتل، بل كانت في سر القتل الذي بدا بلا سبب.
بعيداً، في قرية شبه منسية على ضفاف نيل السودان، حيث تتراص القرى متماثلة و«حريصة على أن لا تمتاز إحداهن على الأخريات»، سكن الناس ضفتي النيل بعيداً عن الجزر والفيضان. «الكونج» اسم نوبي قديم، متداول في مناطق من شمال السودان. ففي كل جزيرة من جزر النيل، هناك «ساب» منطقة منخفضة، و«كونج» أي منطقة عليا.
تمضي الأيام متشابهة، فيُشغَل الناس بأساطيرهم عن الموتى الذين يعودون، وعن الأهل الذين يبدّلون مواضع الأشياء حتى لا يعرف الموتى بيوتهم فيدخلوا، وعن امرأة الجبل، وعن الجنية التي قابلها الطاهر نقد، ففقد بصره. وحدها الحكايات تزجي الأيام الرتيبة، وكلّ شيء معلن ومُخفى في الوقت نفسه. وبالنميمة فقط، تنتشر الأسرار التي لا قدرة لأحد على كتمها. تقول حد الزين جارة القتيلة: «أستغفر الله من سيرة الناس، لكنّ الحق يقال، رضوة فضحتنا وأحنت رؤوسنا. هي قريبتي. الجميع يعرف ذلك. لكن الحق أحق أن يقال». تحكي للنسوة عن ابنة القتيلة وعن القتيلة. كالجميع تخلط الحقائق بالشائعات، وكالجميع لا تعجز عن إيجاد المبرر لفضح الآخرين «إنها جارتي الأقرب والباب بالباب، لكن الحق أحق أن يقال. أنا لا أريد أن أذكرها بشرّ، لكنّها مجنونة لا تدري ما تقول».
و«الكونج» هي باكورة حمور زيادة الروائية، بعد مجموعة قصصية تحت عنوان «سيرة أم دُرمانية» (2008). الروائي والقاص والناشط السياسي السوداني، يقيم في القاهرة حالياً، وكان قد عمل رئيساً للقسم الثقافي في جريدة «الأخبار» السودانية. خلال ندوة نظمتها «دار ميريت» إثر صدور الرواية، قال الروائي أحمد صبري أبو الفتوح إنّ «زيادة استطاع أن يهضم أصوات السابقين، لنجد أنفسنا أمام كاتب سوداني من العيار الثقيل»، من خلال الأسئلة التي يضعها على ألسنة أهل تلك القرية.
ببراعة وبلغة سلسة وحميمة، يكشف المؤلّف العلاقات المتشابكة بين أهل القرية، والعلاقات التي تربطهم بالحكومة والبوليس. ورغم أنّ محور الأحداث جريمة دموية، إلا أنّ خفة الظل تلطف الأجواء والبشر، وتكشف عن بساطة قرية لا يمكن ألا يحبها القارئ، رغم وصفها على لسان الضرير الطاهر نقد بأنّها «ملعونة تماماً. قرية شيخ جامعها نسونجي وزناوي ابن ستين كلب، ومدير مشروعها الزراعي مدعٍ متبختر لص أثيم اسمه نور الدايم وهو سخط الدايم. وواسطة نفوذها في المركز رجل عاق كسر قلب والده فظل يلعنه إلى أن مات».
على مدى مئة وخمسين صفحة، نتابع محاولات أهل القرية كشف لغز الجريمة، عبر قصّ الأثر واستنتاجات البسطاء، وعبر التصرفات الكاريكاتورية لرجل الشرطة البسيط المزهو بنفسه، في مناخ يحكمه الخوف من تسرب الفضيحة التي يجتمع فيها العشق والدم والنميمة، وخيالات الموتى والتساؤلات عن حكم دفن الشخص الذي انقطع جسده نصفين، وسر ضعف السر بلة، زوج ابنة القتيلة عن كبح تصرفات زوجته، ومدى صدقية الاعترافات المتلاحقة المتناقضة للقاتل الذي حيّر الجميع. وإلى أن تذهب الجريمة إلى مصيرها كحكاية تروى في ليالي السمر، يتجاذب الأهل أطرافها، لكنّهم يخفونها عن الغريب. هكذا، يتراجع ذكر القاتل والقتيل كما يتراجع النيل بعد فيضان الخريف، «ويدخل الشتاء إلى الدنيا فتياً مزهواً بنفسه».