مياومو الكهرباء أو وجع الهشاشة

مشهد اعتصام العمال المياومين وجباة الإكراء (من أين أتى هذا التوصيف لمهمتهم؟) ربما كان من المشاهد النادرة هذه الأيام، بعد إضراب أساتذة التعليم الثانوي والأساسي الرسمي والمتعاقدين، الذي يستحق المتابعة كشأن عام جامع، لا بل الدعم الى حد النزول الى الشارع مع هؤلاء. فالمُخاطب في هذه الاحتجاجات هو الدولة اللبنانية، التي تسعى بقية التحركات التي تتنقل على أراضيها هذه الأيام، لتغييبها تحت عنوان «غضب الأهالي».يعترف العمال المياومون واجراء الإكراء بالدولة. يرونها ظالمة، ولكنها موجودة ويطلبون منها الإنصاف. الدولة بالنسبة لهم، ولو كانت غائبة، كالأم، وفي مكان من عقلهم يظنون أنها ستثوب لرشدها وتنصفهم. وربما كانت هذه بالتحديد غلطتهم: فلا أحد كالأم. وحتى الدولة الراعية «على ايام ما كانت دارجة»! فمن عادة اللبنانيين ان يتوخوا من الدولة، خاصة في التحركات المطلبية، ان تنصفهم بدون أن يتحركوا. «خلقة يعني». لكن الحقيقة هي أن الدولة لا ولن تنصفهم، إن لم يكن هناك من بينهم من يطالب ويراقب ويحاسب في صناديق الإقتراع. يبدو معظم اللبنانيين كسالى، إلا حين يهبون للدفاع عن «غيرة الدين». لا ربطة خبز تجمعهم، ولا سعر بنزين يولّعهم، وأتخن تظاهرة مطلبية لا تلم منهم أكثر مما يلمّ أصغر حزب. جنازة زعيم توحدّهم باكين، واستنفار اقليمي مذهبي يرص صفوفهم غاضبين. كأن «السياسة» كما يمارسونها، شيء لا يمتّ بصلة لحياتهم ومعيشتهم. يتهاون المواطنون كل هذا الوقت بحقوقهم، متأملين بعدالة تهطل عليهم من سماء الدولة، كالمنّ والسلوى. لا يتحركون عامة الا على طريقة «آخر الدواء الكيّ» ، وحالياً تحول هذا التعبير الى "آخر الدواء حرق الدواليب وقطع الطرقات". صبر المياومون وجباة الإكراء لأكثر من عقدين على كل هذا الظلم ولا اعرف كيف استطاعوا الصبر. أمضوا عقوداً يعيشون على «كفاف يومنا» ، حرفياً، يوماً بعد يوم، لسنوات وسنوات وسنوات، راضين قانعين بمجرد استمرار المؤسسة الاتكال عليهم. لكن كل ذلك انتهى. كأن هشاشة العيش في لبنان، لا بل هشاشة لبنان نفسه كدولة وحتى كوطن، لا تكفي، حتى تضاف إلى كل ذلك هشاشة الأمان الوظيفي، وشحّ الدخل، وإحتقار «رب العمل». ولمن لا يعلم، فإن وضع هؤلاء العمال هو هرطقة قانونية صافية. تماماً كوضع الأساتذة المتعاقدين. كيف يصبح المؤقت خالداً؟ كيف تمضي حياة، ويشيب شعر ويُنجب أطفال..يكبرون ويذهبون الى الجامعة ويتزوجون ويلدون، ورب المنزل لا يزال غير ثابت في عمله؟ كيف يبلغ العامل سن التقاعد، يصبح جدّاً، وهو ما زال كالخريجين الجدد «يبحث عن مستقبله»، يزجي أيامه على هامش وظيفة لا استقرار فيها ولا أمان يرتجى منها. تعرض هؤلاء العمال لمخاطر كثيرة في تحصيلهم حقوق مؤسسة كهرباء لبنان. تعرضوا للضرب وتعرض لهم رجال أمن الزعماء الرافضين للجباية. تعرضوا للصعق على عواميد الكهرباء، منهم من قُتل، ومنهم من اصبح ذو عاهة دائمة. منهم من تستنجد به القرى النائية، فيخفَ بهمّة الجندي لإصلاح أعطال مؤسسة «تتمارض» لكي تتخصخص. لا راتب ولا ضمان ولا «شحار». والشحار هنا، مع أنه ينتمي الى قاموس منطقة معينة، يعمّ على الجميع حين توحّدهم هموم الطبقة. الرجل العجوز الذي كان يلوّح بأوراق اليانصيب أمام عدسة الكاميرا أمس وهو يبكي قائلا « بعد كل هالعمر ليش انا مضطر صير بياع يانصيب؟» لم يكن يقصد التقليل من شأن باعة اليانصيب، ولكنه كان يشير إلى وجع الهشاشة، الى تراجعه المعيشي المترافق مع تقدمه بالعمر، من رتبة «مياوم» الى رتبة «على باب الله»، بعد أن أفنى عمراً في مهنة، من حقه أن يرتاح ويستفيد من تقاعدها. النساء أيضاً، المهمشات بشكل مضاعف في هذه المهنة، كن مفاجأة الاعتصام: نزلن من قراهن البعيدة، ومدنهن المهملة الى «العاصمة» وقلب كهربائها النابض، ليحصلّن حقاً، في وقت كان فيه «وزير الكهربا» يرفض أن يشارك وفد من هؤلاء في اجتماع لجنة الإدارة والعدل المخصص لدراسة وضعهم، داعيا إياهم الى أن يشتكو «على من وعدهم بالتثبيت». يقال أن الوزير «قرأ» بين سطور التحرك حرباً سياسية عليه، وبما أنه طبعاً مركز الكون، فليكن. لكن، أليس لهؤلاء المياومين مشكلة حقيقية؟ لم لا يستغل فرصة وجوده في هذا المكان لحلّها؟ حينها يضرب عصفورين بحجر واحد: يسجل نقطة على من يحاربه "بافتعال مشكلة" كما يزعم، وذلك بحلّها، وينصف 2500 عامل وعاملة مظلومين، قد يفيدوه يا أخي في الانتخابات!.

لكن باسيل يتصرف بذهنية التحدي! وهذا لا يحل شيئاً. يريد ان يقوم بامتحانهم للتثبيت! كأنهم حتى الآن لم يمُتحنوا ميدانياً، ولسنوات طويلة ويومياً! ما الذي يعنيه هذا؟

باللغة العربية، يقال إكترى شيئاً أي استأجره لاستعمال مؤقت. اما بالعامية فيقال: «شو عم تكاري عليي»؟ للتعبير عن استنكارنا استغلالاً وقحاً. المياومون اصلاً مستغلين على امتداد سنوات. لا أحد يمكن ان يمضي عمره مياوماً! حتى في قانون المشاع مثلا، اذا وضع شخص يده على أرض وزرعها وحصدها لعشر سنوات تصبح له، وماذا عن البشر في الوظائف الهشة الظالمة؟


صحيح ان «تسييس» التحركات المطلبية يفرغها أحياناً من مضمونها المحق، لكن ألا تكون الدولة، باستمرارها تجاهل وضع هؤلاء الشاذ، ومتابعتها في الوقت ذاته الاتكال عليهم، هي من «يكاري» بحق على ظهورهم؟



******

تقف والدتي على شرفة منزلي في بيروت. كانت تحمل بيدها فنجان القهوة بالحليب الصباحي الذي نسميه في البيت «البيبرونة»، تيمناً بطفولتنا وتوخيا لإطالة عمر الدلع على الوالدة. وقفت تتأمل الشارع الهاديء يوم الاحد، إلا من بعض الخدم الذين يأتون الى محل اتصالات الانترنت القائم تحت المنزل ليتصلوا باهاليهم. ثم قالت التالي: "وهيدا مش فحش يا ماما؟ مش حرام يوظفو بنتين فيليبينيات منشان يكزدروا كلابهم؟ كيف ألن عين؟ أنو واحدة جايي من آخر ما عمر الله، تاركة ولادها وعيلتها لأنو مش لاقية تاكل..كيف ألن عين يشغلوها بهالشغلة؟ موظفة «لتخ..ي» كلب!» تسكت لحظة ولا تزال عيونها مثبتة في نقطة ما من الفضاء الفارغ امامها على غرار ما نفعل حين نكون شاردين: «هيدا اسمو كفر». انظر اليها في وقفتها تلك والفنجان الساخن بيدها، ثم أقول بصوت هامس: «ماما..أظن أنك اكتشفت للتو الرأسمالية». ****

التعليقات
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/3/2012 3:17:47 AM

بوّس قلمك أنا ،، ويخلي لك الماما ،،، الاريتري المحتال صنعاء

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/2/2012 3:20:05 PM

يا عزيزتي ضحى يؤسفني أن أقول لك وأنا أعيش منذ ثلاثين عاماً في بلد ومنبع الرأسمالية في العالم، إن أمك لم تخطئ فما ترونه في بلادنا العزيزة هو الكفر كما قالت عنه أمك، ولا علاقة له برأسمالية ولا بإشتراكية ولا بأي نظام . هو الفوضى الفردية هو عصر ما قبل تنظيم المجتمعات ضمن أنظمة ودول...هو عصر التحلل تمهيداً لقدوم'' الشعب المختار'' المنتظر جنوباً اللحظة المناسبة ليقضم أرضاً بلا شعب...

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 6/1/2012 3:55:52 PM

ابحثي عن المقدس عن المقاومة .المشكلة ليست بالرأسمالية انما بنوع طفيلي منها. السويد رأسمالية لكن لا مجال للمقارنة.الاشتراكية بالتاكيد ليست حل.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
صورة المستخدم

مجهول - 5/30/2012 1:10:33 PM

يتمتع تحرك المياومبن والمياومات بصحة تحرك نقابي خالي من الأمراض.

اضف تعليق جديد
انقر للتصويت
صورة المستخدم
1500 حرف متبقي
شاركونا رأيكم